المعضلة العميقة التي واجهتها ثورة 17 تشرين وهي تطرح الشعار غير المسبوق والفعّال أخلاقيا : “كِلُّن يعني كِلُّن” الذي أحرج الطبقة السياسية وعطّل- أخلاقياً- قدرة هذه الطبقة التقليدية على استخدام الصراع بين أجنحتها للالتفاف على مسؤوليتها الشاملة عن الانهيار الاقتصادي والخدماتي، هذه المعضلة هي أن التعطيل الأخلاقي لم يؤدِّ إلى تعطيل سياسي للواقع الفئوي اللبناني.هكذا استمرت بعض أجنحة الطبقة السياسية في التصرف إما كأنها مستثناة من شعار “كلّن يعني كِلُّن” أو كأنها قادرة على استثناء نفسها بقوة الأمر الواقع.
هذه المعضلة هي ليست مجرد ظاهرة مواكبة للثورة بل هي في العمق قوة إنقاذ للطبقة السياسية منعت أو ساهمت في منع حصول تغييرٍ أكثر جذريةً.
الثورة في لحظتها الحالية جهيضة، ميتة سياسيا وإن لم تكن ميتة معنوياً، الانهيار الاقتصادي الذي يسحق البلد يبدو وكأنه يسحقها في طريقه.ومع أن القوى الشبابية النخبوية التي أطلَقَتْها لا تزال موجودة وناشطة فهذه القوى ليس أكيدًا أنها لاتتعرّض ولن تتعرّض تدريجياً إلى تناقص كمّي ونوعي بفعل الهجرة إلى الخارج.
المؤسف، ولا بد من ذكر ذلك، أن زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الأسبوع قبل الماضي إلى بيروت بدل أن تتحول إلى قوة دعم تساعد الحكومة الحالية على الإسراع في اتخاذ إجراءات إصلاحية، أدى ما أراه أنه خطأ لبناني رسمي في النباهة السياسية إلى تظهير التدخل الفرنسي وكأنه قوة مضادة للحكومة، بينما هذا التدخل هو في الواقع قوة ضد الطبقة السياسية اللبنانية وليس ضد الحكومة. ففي كل حركة فرنسية سبقت وواكبت الزيارة كان ينبعث نفَسُ ابتعاد عن الطبقة السياسية، حتى أن الوزير لودريان باستثناء المناصب الرسمية التي يفرض البروتوكول الاجتماع بها، تصرّف في العلن باعتباره ليس راغباً في اللقاء مع القوى السياسية التي تحمّلها ثورة 17تشرين المسؤوليةَ الكاملةَ عن الانهيار.
وهذا بحد ذاته علامة على القوة الأخلاقية التي أنتجَتْها الثورة.
“كِلُّن يعني كِلُّن” لم تؤد مع الأسف إلى تفعيل وحدة الرفض في المجتمع اللبناني التي يتطلبها التغيير السياسي الصعب والمعقّد. لم يُجِب لسانُ حال اللبنانيين باعتبارهم معنيين: “كِلْنا يعني كلنا” أصحاب مصلحة في تغيير ديناميات الحكم. كان ذلك إلى حد ما متوقَّعاً، فزبائنية النظام السياسي وتقاليده الطائفية تمنعان تبلور حركة غير مسبوقة في التغيير.
يُعنى التغييريون في أي بلد في العالم بتفعيل العوامل التثويرية في المجتمع. في لبنان أطلقت النفايات المتراكمة في الشوارع إرهاصات الحركة الثورية عام 2015. كان ذلك هو المظهر المقرف لسقوط الدولة.
الفشل الآخر للثورة، أكرّر السياسي وليس الأخلاقي، أنها لم تتمكّن من شق بعض قطاعات الدولة عن الطبقة السياسية. المطروح هنا تحديدا هو القضاء. حجم تغلغل وتغوّل سيطرة السياسيين على القضاء يجعل هذا القطاع عصيّاً على لعب دور تغييري رغم مظاهر تململ العديد من القضاة، وقد بدت حركة “نادي قضاة لبنان” واعدة في فترة ما من هذا العام ثم لم نعد نسمع الكثير عنها.
لكن ما لا يمكن تسميته فشلاً لأنه يتعلق بعائق موضوعي صلب، هو الدور السلبي للستاتيكو الإقليمي في لبنان في منع التغيير. ليس فقط عبر التدخل الميليشياوي الفج في بعض مراحل الثورة ضد المتظاهرين السلميين بل أساسا في جعل إمكان أي تغيير خطاً أحمر يستنفر الثقل الداخلي للقوى المحلية التي يستند عليها هذا الستاتيكو. (مع العلم أن الإرث الميليشياوي حاصر بعضُه الثورة من خارجها و”حاصر” بعضُه الآخر من داخلها، لاسيما لجهة رفع شعاراتها في مناطق معيّنة طمعا بإضعاف أخصامه في البيئة نفسها).
هل خسرنا فرصة الدعم الدولي التي كان بإمكان التدخل الفرنسي أن يوفرها للتغيير اللبناني؟ بالنتيجة فالأوكسيجين الذي ضخّته الزيارة الفرنسية هو أوكسيجين نظيف سياسيا بمعزل عن مدى فعاليته راهناً، وسنرى لاحقا كيف يمكن لمصالح دولية أن توازن بين حساباتها في المنطقة وحساباتها في لبنان؟
هل فوّتت الحكومة أيضا فرصة مطالبة فرنسا بالسعي لدعم تشكيل لجنة تحقيق دولية في أموال الفساد المهرّبة خارج لبنان إذا افترضنا قدرتها على طرح هذا الموضوع؟
“النهار”اللبنانية