خاص \ مكتب التجدد \ بيروت
في تماه يصل حد التطابق الأمين ، بين ماقدمه قلم جمال ناجي في رائعته “عندما تشيخ الذئاب” ، وبين ما تلقاه الجمهور العربي ، كمسلسل درامي يحمل نفس اسم الرواية ، بكاميرا المخرج عامر فهد ، حول الكاتب حازم سليمان أحداثها ، التي تجري في الاردن خلال تسعينيات القرن الماضي إلى عمل تلفزيوني ، تجري تفاصيله في العاصمة السورية – دمشق.
نحن بلاشك امام مسلسل، هو بمعظم مقاييس العمل الدرامي (متعوب عليه ومشغول به) حتى أدق التفاصيل ، وهو لذلك يستحق ان يكون هدية الدراما السورية و(العربية) للمشاهدين في رمضان لهذا العام ، بلا منازع.
بالطبع كما في رواية “عندما تشيخ الذئاب”، ليس كل شخوصها ، هم شخصيات محورية بنفس الدرجة ، كذلك الامر بالنسبة لشخصيات المسلسل ، فالكاتب (جمال ناجي) بدأ الحديث بلسان سندس ، التي قامت بدورها في العمل (هيا مرعشلي)، وهي شخصية محورية رئيسة في الرواية ، وانتهى بحديث الشيخ عبد الحميد (الجنزير – الذي قام بدوره سلوم حداد)، وهو أيضا شخصية محورية ، أكثر من سندس.

سمر سامي بدور “جليلة”
الجليلة (سمر سامي) ، امرأة مكتنزة بالهيبة والوقار، لدرجة ان الخوف يدب في قلوب أهل الحي ، وجيرانها ، لمجرد ذكر اسمها في مجالسهم ، تعاني من مرض خفي المنشأ. تمتاز بصلابة الموقف والتعبير عنه دون وجل او تردد ، تعيش في المنزل مع ابنها الوحيد (عزمي) ، وزوجها (رباح). ستموت لاحقا ، جراء تفاقم مرضها ، وعدم رضوخها للعلاج كما يجب ، وقبيل سماعها بنية زوجها ، الزواج من سندس.
رباح (علي كريم) ، رجل يعمل بكتابة العرائض والشكاوى والاستدعاءات ، أمام مبنى المحكمة (عرضحالجي) ، وهي مهنة مهددة بالانقراض في سائر بلاد العرب، بسبب التقدم التكنولوجي . بعد رحيل زوجته (جليلة – سمر سامي) ، تزوج من (سندس) ، الفتاة التي تصغره بسنوات ، ويكبرها بعقود.
فاطمة (تولي هارون) والدة سندس ، امرأة تمثل بيئة العمل والرواية (معا) ، بكل تفاصيلها ، حيث التكافل والتعاضد بين عائلات وأفراد الاحياء الشعبية . تحمل طيبة أهل الحي ، وبالآن ذاته فطرة سكانه وطريقة تفكيرهم ، أولئك الذين يحتفظون بقيم انسانية أصيلة، رغم المآسي.

جبران \ عبد فهد – ورابعة (زوجته) ميسون أبو أسعد في “عندما تشيخ الذئاب”
رابعة (ميسون ابو أسعد) ، امرأة يصارعها طموحها ويصرعها، فبعد انتقالها للعيش في أحد سكان الأحياء الجديدة الراقية ، تغدو المصلحة المطلقة ، هي رباطها الاجتماعي الوحيد ، دون أي جانب انساني واضح، حتى مع أقاربها وأقارب عائلتها ، فتدعو ضيوفها ، وتقربهم لتحصل على مقابل ، يتعلق بتلميع زوجها (جبران – عابد فهد).
جبران \ عابد فهد (شقيق الجليلة) ، رجل ذو ميول حزبية يسارية ، يدفع لاجلها ثمنا باهظا من حياته ، ويدخل السجن فترة ليست بالقصيرة ، ليخرج بعدها ، ويتخلى عن مبدئه ، حيث يدخل عالم الكولسات والصفقات التجارية ، ثم سيسخر المال الذي اتاه كـ(ورثة) ، وكذلك علاقاته التي اكتسبها في مجال الاعمال ، من اجل ان ينال الوزارة.

هيا مرعشلي بدور “سندس”
كثيرة جدا هي الميزات ، التي يجب و(ينبغي) من ناحية العرض والتحليل ، التوقف عندها في مسلسل “عندما تشيخ الذئاب”، من انتاج تلفزيون “أبوظبي” ، وسنحاول خلال هذه الاطلالة ، ان نتوقف عند شخصية الشيخ “عبد الجليل”، الذي شكل “بيضة القبان” في العمل ، والتي أدى دورها باتقان مدهش ، وعمق درامي ، الممثل السوري الشهير “سلوم حداد”.
بين حي “الشيخ محي الدين” الدمشقي و”جبل الجوفة” الاردني
تدور أحداث رواية «عندما تشيخ الذئاب» في معظمها بـ(جبل الجوفة) ، وهو من مناطق العاصمة الأردنية -عمان ، التي يغلب على سكانه الفقر والعوز. منطقة فقيرة ، بيوتها فوق بعضها ، وتفصلها عن بعضها الأزقة. وفي بيئة جبل الجوفة ، تختلط العلاقات وتتضارب المصالح ، وتتعقد علاقات الناس الذين يجمعهم الفقر، أو هم في أحسن الأحوال ، يحيون على الكفاف، ومع تقادم الزمن ، يصبحون على هامش المجتمع.
فيما تدور أحداث الرواية الدرامية في حي “الشيخ محي الدين” الدمشقي المعروف ، الذي صور العمل كاملا في حاراته ، وهو أحد الأحياء الدمشقية الفقيرة والشعبية ، حيث يظهر في هذه الاحياء وبجلاء ، جانب إنساني آخر ، غير جانب الفقر والحرمان، والمعاناة والمؤامرات الأسرية ، وهو جانب التكافل والتعاضد بين عائلات ، وأفراد هذه الأحياء.

غلاف الرواية
إشكالية العنوان
في التوقف عند عنوان العمل ، وهو مأخوذ عن رواية جمال ناجي ، التي تحمل الاسم نفسه ، فان له وقعه في النفس ، ورمزيته المتعمدة من قبل كاتب الرواية ناجي ، وقد يبدو صحيحا من وجهة نظر اللغة والمفهوم في تفسير ما يوحيه العنوان من اشكال لدى أهل الادب والفن والثقافة ، ان يقال في العنوان ، الطرح التالي : «وماذا حين تشيخ الذئاب»؟!.
في القراءات النقدية للرواية المكتوبة ، بخصوص عنوان جمال ناجي، والذي أحيانا يفضل ألا يشرح (العنوان)، ليترك لقارئه التفسير، فقد فسره البعض بتفسير أول – أظنه ضعيفا – وهو أن عبد الحميد \ الجنزير ، هو ذئب بشري ، لبس لبوس التقوى ، وأصبح شيخا ، فأفسد على كثير من الخلق دينهم ودنياهم، وربما أن جمال ناجي ، لم يرد هذا المعنى.
التفسير الثاني للعنوان ، هو أن الذئاب البشرية حين تهرم ولا تجد ما تفترسه ، تستسلم ، وتقر بجرائمها ، وتزعم أنها قد برئت من ذنوبها، والنهايات التي يشكل بها ناجي ، روايته لابطال عمله ، قد تدلل على ذلك ، وهو ما سننحيه جانبا في هذه القراءة ، حتى لا نفقد المشاهد متعة المتابعة، وعنصر التشويق المصنوع دراميا.
ملمح آخر من ملامح توضيح العنوان ، وما رمى اليه الكاتب ، فالذئاب حين تشيخ تستسلم للموت ، لأنها لا تجد ما تفترسه، ولكن هناك من قد يصطاد الذئاب، وقد تقتل الذئاب بعضها في أهبة الصراع على الفريسة أو الجيفة، وحتى حين يشيخ الذئب ، فإنه يبقى ذئبا.
ورغم كل شيء ، يبقى للعنوان إشكاليته ورمزيته ، وله من يعجب به ، وله من ينتقده ، وقد احسن الكاتب اختياره لهذا الاسم ، وأحسن (أيضا) صناع العمل باعتماده ، مطابقة ، وعدم تحويره او تغييره ، لما له من وقع في النفس ، ولغرابته ، وما فيه من جرس خارق، ورمزية متعمدة ، حضت على استكشافه ، واقتفاء معناه ، فكان أقوى ، واتى أبين.
سلوم حداد “الذئب” الذي لا يشيخ … و”الجنزير” الذي لايصدأ
في هذا العمل ، يجسد الممثل السوري “سلوم حداد” دور الشيخ عبد الجليل ، الذي يلقب بـ”الجنزير”، وهو في الرواية ، اسمه (عبد الحميد) ، لكن يحمل ذات اللقب. هذا الرجل،هو مجموعة من الشخصيات المتناقضة في “رجل واحد”، ولكن لم يتخل الشيخ الجنزيرعن تدينه بحدوده الدنيا، وعبارات الإيمان واليقين ، تبقى حاضرة و واضحة في أحاديثه ، وتأكيده على أن الدنيا فانية، وهذا التأكيد لم يمنعه أن يعب منها ما تيسر، ويتقلب في دهاليز فتنتها ، وزينتها. الشيخ عبد الجليل، يداوي الناس أيضا بالأعشاب والآيات القرآنية، وتتمتع شخصيته بالفكاهة ، والمرح والاعتدال ، وميله الشديد للنساء، وهو متزوج (مرتين).
يلخص الشيخ الجنزير فلسفته في الحياة ، ورؤيته لها في ص (156) من الرواية المكتوبة ، حيث يقول: “لقد تبين لي بأن الحياة سهلة ميسورة في ظاهرها، لكنها معقدة في باطنها، وبين الظاهر والباطن توجد منازل الناجحين من الناس، لأنهم يرون الظاهر ويعرفون الباطن.
يكفي أن يدخل المرء في روع الآخرين أنه مقتدر ، وممتد ، ومتنفذ حتى يلتفوا حوله، ويصير نافذا من خلالهم هم ، وسواهم. لكن هذا لا يتسنى لكل الناس، فهو نتاج نفيس لعصارة العقل المتوقد، ثم إن اشتغالي السابق في أعمال البر وجمع التبرعات والمداواة وما شابهها من أمور أفادني كثيرا، وعرفني على بعض الأسماء المهمة التي صرت ألتقي أصحابها فيما بعد”. انتهى الاقتباس.
كما في الرواية المكتوبة ، كذلك في الرواية الدرامية ، يبقى الانتماء السياسي لـ”الجنزير” ، غامضا، حيث لم تتضح معالم جماعته بالضبط ، أسلفية أم صوفية ، أم غير ذلك، وحتى لونها السياسي ، هو ليس واضح تمام، رغم اهتمام الشيخ بالسياسة ، والاجهزة الامنية.
هكذا تطل على الجمهور ، شخصية عبد الحميد (الجنزير) ، بلا أي معالجة لمسألة طفولة الشيخ ، اذ ان لمرحلة الطفولة ، دور كبير في صياغة ، وتكوين شخصية الإنسان، وعموما لم يتطرق العمل بشكله (الدرامي) ، كما هو الحال في سرده (الروائي)، لمراحل طفولة الشخصيات.

“حداد” بدور الشيخ عبد الجليل

الشيخ فتحي الصافي
سلوم حداد يستحضر الشيخ فتحي الصافي
يظهر “حداد” في العمل بذقن كثيفة على طريقة السلفيين ، وقد اتقن دوره باحتراف، فيما ذهب البعض الى ان هناك العديد من المواقف والمشاهد والكراكترات ، التي قدمها “سلوم حداد” خلال العمل ، وأراد منها، أن يستحضر شخصية الداعية السوري “فتحي الصافي”، الذي توفي أوائل أيار الجاري عن عمر 65 عاما، المعروف بشيخ “الواتسآب”من كثرة تناقل فيديوهاته.
والذي كان يتمتع بروح عالية من الفكاهة ، وخفة الظل، اذ اشتهر خلال السنوات الثلاث الأخيرة بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي ، بمقاطع فكاهية ، وسعت من شعبيته ، كما تميز بطرح القضايا بأسلوب قصصي وساخر، ولطالما أثار ضحكات من تداولوا تلك المقاطع ، وظهر بشخصيته الدعوية لتقريب الناس من دينها بأسلوب فكاهي ، وعرف بمواقفه المثيرة للجدل ، واستخدامه أسلوب الـshow في طرح القصص.

الروائي الراحل جمال ناجي
مسلسل “عندما تشيخ الذئاب” ، تدور احداثه في تسعينيات القرن الماضي ، وهو مأخوذ عن رواية الكاتب جمال ناجي ، ووضع له السيناريو والحوار حازم سليمان ، ومن إخراج عامر فهد، ، وتغني شارة المسلسل (سارة فرح)، وهذه التجربة ، هي الأولى لها في غناء “تيتر” المسلسلات الرمضانية، وتؤدي أدوار البطولة أسماء بارزة ، مثل : “سلوم حداد ، وعابد فهد ، وسمر سامي ، وأيمن رضا ..”،وآخرون.
“أبوظبي” تحذف بعض المشاهد (دون تبرير)
بعد عرض الحلقات الاولى من هذا العمل الذي تساهم ابو ظبي في انتاجه وتعرضه بشكل حصري ، إلا أن القناة حذفت عددا من المشاهد (من دون تعليق على الموضوع) . ليقوم لاحقا ، مخرج المسلسل عامر فهد، بنشر المقاطع المحذوفة عبر حسابه الشخصي في “أنستغرام”، وتناقلتها حسابات أخرى لاحقاً.

محمد حداقي بدور “عمران”
ومن هذه المشاهد التي تدخلت الرقابة ، واجتزئتها :
مشهد إعلان غزو العراق للكويت، الذي يتم الحديث عنه في بقية المسلسل. بالإضافة لمشهد “حضرة صوفية” ومشهد يتضمّن إيحاءات جنسية جمع بين الشيخ عبد الجليل وزوجته، بعدما فشل في إقامة علاقة معها.
كما حذفت القناة ، مشهد حوار بين شخصية المتشدد الديني عمران (محمد حداقي) ووالدته ، التي تسأله عن والده المقيم في الكويت ، والتي انقطعت أخباره بعد الغزو، فيقول لها أنه يتمنى أن يكون والده التحق بقوات الحق والجهاد!