aren

وتبقى سوريّا… وطنا!! \\ كتاب : سمير العيطة
الإثنين - 1 - يونيو - 2020

بُعيد نهاية الحرب الأهليّة اللبنانيّة الطويلة، طرح المفكّر جورج قرم السؤال التالي: هل يستحقّ لبنان أن يكون… وطنا؟ كان ذلك بصدد تفنيده للسرديّات الطائفيّة حول تاريخ بلاده ونظامها السياسي ومشروع إصلاح الدولة والاقتصاد والمجتمع. وبرّر سؤاله الصادم بأنّ القلق، والقلق وحده، دفعه إلى مغامرة الخوض في هذا السؤال. كي يستعير الكاتب نصري الصايغ بعد عشرين سنة السؤال ذاته في عرضه لانتصار الطائفيّة فى لبنان وعلى لبنان.

سمير العيطة

 

واليوم، يجب أن يدفع القلق السوريين لطرح السؤال ذاته عن سوريا. بعد أن خلُصَت الحرب الأهليّة وحرب الآخرين بالوكالة في سوريا وعليها إلى وضعٍ يتزامن فيه التقسيم الفعلي والاحتلالات مع ضغطٍ معيشي يُنذِر بكارثةٍ لا قرار لها. هذا في ظلّ فصامٍ في هويّة السوريين كسوريين انتصارا لطائفيّة دون منظومات طوائف فعليّة، كرَها للآخر نما مع الحرب بين أبناء الوطن ذاته.

جميع مجتمعات الدول الحديثة تختزن، دون استثناء، هويّات وذاكرات جماعاتيّة متنوّعة وموروثات تستمدّها من تاريخها حتّى ذلك السحيق في القدم. وهذا الإرث يُشكّل ثروةً لهذه الأوطان عندما تكون مجتمعاتها متصالحة مع نفسها وتأخذ مسافةً عنها، بل قطيعةً معرفيّة حينما يلزم، وتنظر إلى وجودها ومستقبلها كجزءٍ من المجتمع البشري. إلاّ أنّ هذا الإرث قد يأتي بعوامل اندثار لهذه الأوطان عندما تضطرب مجتمعاتها وتفقد أسس لحمتها من جرّاء صراعات ومظالم ومطامع حقيقيّة أو وهميّة.

ومشرقنا عموما وسوريا بشكلٍ خاصّ، يحمل حصّته الكبيرة من الهويّات والذاكرات الجماعاتيّة، أديانا ومذاهب وهويّات مدينيّة وعشائريّة حتّى فى الريف بعيدا عن بدو البادية. لكنّه يحمل أيضا إرث إنشاء الدولة كمؤسّسة لتنظيم حياة المجتمع، عبر تنظيم الري وتخزين القمح في وجه طبيعة شديدة التقلّب، وكذلك عبر تنظيم التجارة نظرا لموقعها في قلب العالم القديم. وما أسّس لدساتير وقوانين ومحاكم وإدارات قبل الرومان بمئات السنين.

لقد أيقظ الصراع الذي نشب في سوريا هذه الموروثات. فمنذ أيّام الانتفاضة الأوّلى على الاستبداد تم إفشال الثورة كـ«ثورة»، كي لا تؤسِّس لبديلٍ يجمع كلّ السوريين بكلّ موروثاتهم. من ناحيتها، جيّشت السلطة بالطبع بعض هذه الموروثات للتفرقة والشرذمة كى لا ترحل، وهذا كان متوقّعا من أيّة سلطة استبداديّة. لكنّ الدول التى ادّعت مساندة «الثورة» جيّشت، هي الأُخرى، هذه الموروثات إعلاما ومالا وميليشيات وسلاحا. السلطة السوريّة كانت تريد أن تستمرّ في الهيمنة على الوطن، أمّا الدول التى أخذت سوريا إلى الصراع الدامي فكانت تريد تدمير الوطن كوطن وكدولة وكتوافقٍ اجتماعي. دولٌ استعماريّة قديمة أسقطت رؤيتها للمسألة الشرقيّة عبر مفاهيم الأغلبيّة والأقليّات، وأخرى تكتشف الاستثمار فى موروثات اجتماعيّة لبسط نفوذها. لكنّ هذا أيضا كان متوقّعا، إلاّ أنّ حجم الانخراط في الصراع هو الذي كان مفاجئا، وكذلك ضبطه ليبقى محصورا فقط عبر السوريين، حتّى بين إيران وتركيا وإسرائيل.

لكنّ المسئوليّة الحقيقيّة تقع على السوريين أنفسهم، وخاصّة على نخبهم. إذ ليس جديدا أن يلعب الاستبداد والاستعمار على الموروثات الجماعاتيّة. فقد عاشت سوريا عند نشوئها مثل هذا العبث. إلاّ أنّ النخب السوريّة والوعي العام أسّسا رغم الموروثات وعبر نضالات مريرة لعروبة متحرّرة، انخرط فيها الكرد بقوّة، ولسوريا شديدة الحرص على فلسطين ولبنان والأردن. وتغلّبت هذه القناعات حينها على الموروثات وألاعيب الاستعمار وبقيت سوريا وطنا، حتّى أكبر من حجمها.

ما أتى به صراع السنين التسع الماضية مختلِف. فقد تمّ تبنّى مقولات الأغلبيّة والأقليّات، مظلوميّة هذا وذاك، السابقة والحالية. ما لا معنى له في بلدٍ تتنافس فيه هويّة المدينة والمنطقة مع الهويّة المذهبيّة أو القوميّة. كما تمّ الخلط بين السلطة والدولة و«النظام» دون حرج في سرديّات سياسيّة تحلم بديمقراطيّة في فراغٍ دون دولة قادرة، رغم تجربة العراق القريبة ورغم النموذج اللبنانى الذى كان يترنّح. ونمت الطائفيّة، بمعنى خصوصيّة هويّات ما قبل المواطنة ورفض الآخر، مذهبيّة كانت أم قوميّة، انتقادا لموقف منطقة أو مدينة في البداية ومن ثمّ صراحةً دون حياء. أنّ السنّة كذا والعلويين كذا والدروز كذا والكرد كذا. وكأنّ كلٌّ هؤلاء يشكّلون حقّا «مكوّنات» متجانسة ومنظّمة ككيانات طائفيّة. وتمّ تبرير التطرّف والإرهاب من كلّ طرف بأنّ البادئ أظلم. وقام سوريّون بتشجيع الخارج على قصف بلادهم أو احتلالها أو فرض عقوبات اقتصاديّة عليها (إجراءات أحاديّة الجانب) دون التفكّر بأنّ هذا سيأخذ البلاد إلى هيمنة أمراء الحرب قبل سقوط الدولة… وبعدها.

تغلّبت السرديّات الطائفيّة على منطق الحرية والكرامة لجميع السوريين. ولم يوحّد بطش السلطة السوريين، ولا حتّى «المعارضة» منهم، لا تلك التي تسمّى سياسيّة ولا الفصائل المسلّحة. وارتهنت «المعارضة» كما السلطة للخارج.

لم يشكّل استقواء التنظيمات الأكثر تطرّفا كالنصرة وداعش رادعا للتفكّر فيما تذهب إليه البلاد ، فقد تمّت ممالأة النصرة أنّها ردّ فعلٍ اجتماعي (!) في حين لم يكن لعاقل أن يرى لها مكانا لا في سوريا موحّدة ولا في وطنٍ مهما كان. وتمّ النظر إلى داعش أنّها صنيعة «النظام» دون التفكّر في أسسها الاجتماعيّة العشائريّة وفي عدائها الشديد للكرد المستورد من العراق ولا في حجم المؤامرة الدوليّة التي رمت بكلّ جهاديي الدنيا في «مستنقع» سوريا دون رادع. هكذا لم توحّد فظائع داعش السوريين رغم أنّها كانت قد أدّت إلى فقدان التعاطف الدولي الشعبي مع محنتهم واستغلال ما بقى منه لفئة وحيدة منهم وكأنّها هي وحدها التي عانت.

كذلك لم توحّد الاحتلالات الخارجيّة السوريين. مثّلت إيران وروسيا وحدهما احتلالا للبعض، بينما مثّلت تركيا والولايات المتحدة قوّتي احتلال للآخرين. ومن ثنايا ذلك نشأت أحلام بكانتونات وفيدراليّات ونظريات لبناء دولة من الأدنى إلى الأعلى، دون النظر إلى ما يعنى ذلك من تبعيّة للخارج ماديّا ومخابراتيّا… وبالطبع عسكريّا.

واليوم يأتى ترنّح نموذج لبنان وما مثّله من متنفّس والخناق الاقتصادي الأمريكي ليأخذ سوريا إلى نفقٍ أقسى من ذلك الذي عرفته خلال أشدّ فترات النزاع، حيث لا يُعرف أمده في ظلّ صراع الأمم ولا مآلاته في ظلّ التقسيم الذي يتمّ ترسيخه كواقع ولا مآسيه مع الاقتتال اليوم من أجل لقمة العيش.

جميع السوريّين، وخاصة ما تسمّى نخبهم، مسئولون أوّلا وأخيرا عمّا إذا كانوا يستحقوّن الوطن الذي فرّطوا جميعا به. لكن بالتأكيد سوريا تستحقّ أن تكون وطنا… لكلّ مجتمعها بتنوّعه ولوضعه فوق أي اعتبار آخر… مهما كان واقع اليوم.

“الشروق”المصرية