فلئن كان الصمت يخيّم على القاعة فهو صمت ظاهري، لأن العمل نفسه يصدر أنينه الداخلي بكل ما تعنيه كلمة “داخلي” من حضور.
إنه إكزودس ملحمي تأخذنا فيه شخوص جنان مكي باشو المعدنية المرسومة بمادتي البرونز و الحديد، معدن بيد جنان مكي هو أكثر رقة من الريشة، وماء أكثر قوة من النار.
إنه معرض النزوح الإنساني. لا تكفي هنا ثلاثية الهروب اليهودي والخلاص المسيحي والهجرة الإسلامية لمعرفة تحسس هؤلاء البشر الذين تضعهم شخوص جنان مكي في قافلة مهيبة، لأن مأساة العصر في الاستبداد والتعصب الكهنوتي تطلع على وجوه هؤلاء المعذبين نساء ورجالا وأطفالا حيثما شهدت أزماتنا وأزماننا.
أسمح لنفسي أن أذهب بعيدا في الاجتهادات التي تتيحها قافلة جنان مكي. هذه القافلة الطويلة فيها من نكبات إكزودس الفرز السكاني الهندي الملاييني عام 1947، وفيها الهروب الفلسطيني العراقي والأفغاني واللبناني وليس فقط السوري، النكبة الكبرى الهائلة الأخيرة التي قد تكون حاضرة أكثر من غيرها في ذهن وعيني وأصابع جنان مكي. هذه قافلة كل قافلة عذابات معاصرة.
العمل بل الأعمال المستمرة بها جنان مكي منذ خمسة أعوام من النحت بالحديد والبرونز والتي عرض بعضها متحف بروكلين سابقا، وتعرضها الآن غاليري أجيال في بيروت حتى 31آب الجاري تحت عنوان: “فصول الهجرة اللامتناهية” هو حدث فني بكل ما تعنيه الكلمة. هنا تلتقي الحروب والسياسة والثقافة في فشل حضاري تنقله أساسا جنان مكي في قافلتين معدنيتين(من لحم ودم) واحدة للبشر المعذبين وأخرى للخرفان كقطعان منتظمة بالقوة تحت رعيان عتاة، الاستبدادات التي تمارسها سلطات سياسية عاتية وكهنوت روحي يقمع المؤمنين قبل غيرهم، وهي من هؤلاء المؤمنين.
لوحات خشبية تعتمد الشخصية النافرة لا المرسومة ولوحات معدنية تواكب الإكزودس وتجعل أعمال هذه الفنانة متميزة فعلا.
وُلدت جنان مكي باشو في كنف عائلة من شريحة عالية المستوى من الطبقة الوسطى. والدها الراحل الدكتور أحمد مكي، هو أحد المؤسسين البارزين إلى جانب الراحل فؤاد أفرام البستاني للمناهج التعليمية المدرسية اللبنانية، وكان كعميد تأسيسي لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية ضحية من ضحايا الشعبوية الثقافية السياسية في الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، عندما اجتاح شعار “ديموقراطية التعليم” متطلبات نوعية التعليم وانخرط جزء كبير بل الأكبر من جيلنا في هذه المذبحة التربوية.
بحدود معرفتي لا بد أن جنان مكي نشأت وكبرت كفتاة وسيدة، كفنانة وأستاذة جامعية، في كنف هذه المفارقة من الصراع بين جودة التعليم وضغطه الشعبوي في الزمن الذهبي اللبناني الذي كان أحمد مكي أحد رموزه في المجال التعليمي. لذلك لا يمكن إلا أن تكون نظرتها إلى الانحطاط الذي أصاب دولَنا ومجتمعاتنا (وهي التي عملت طويلا على رسم بيروت لغة وصورة)، جزءا لا يتجزأ من النزوح الفردي الجماعي الذي تحاول أن تعكسه في معرضها الحالي. الحروب علامة الانهيار، والتعليم علامة الانحطاط. فقافلتها قافلتان: بشر وحقائب معذبة، وقطيع طويل من الخرفان الصاغرة تحت الحراسة.
أدعوكم إلى معرض آلام الجماعات… لا التي يصورها الاستبداد وكأنها جماعات بلا أفراد وإنما الفرد الفرد وجحيمه الفردي والجماعي.
“النهار”