كان لـ”ماري كوري” ، تجربة مع الصحافة ، حملت معاني مفيدة ، مثلما حملت تجربة حياتها العلمية من معاني غاية في الاهمية ، وكلتا التجربتين مع الصحافة أو في المسار العلمي ، كان في اساسهما ، تجربتها الحياتية، الأبلغ أثرا.
تجربة ماري مع الصحافة ، كانت ذات شقين ، عندما اكتشفت امكانيات عنصر (الراديوم) ، والطاقة الذاتية التي يختزنها ، ويمكن ان يطلقها. عندها ، عنونت صحف باريس ، صفحتها الاولى بـ”انجاز ماري” مع التركيز على شريكها وزوجها “بيير”، كونه ذكر (رجلا) أولا ، ولكونه فرنسيا ثانيا ، بينما هي (بولندية الاصل) ، ورغم هذا الترويج ، أحست ماري ، ان الاعلام والصحف، يقدموا زوجها عليها ، رغم انها صاحبة الانجاز الاساسي في الاكتشاف.
أما الشق الثاني من تجرية (ماري) كوري مع الصحافة، كانت عندما شنت الصحف ، حملة مسعورة عليها لاقامتها علاقة غرامية مع أحد العلماء العاملين في مختبرها ، وراحت التهم لتصفها بـ”العاهرة البولندية”، وجرى شيطنة صورتها، وتحميلها آثار الاستعمال السيء للاشعاع ، ووصفتها بـ”الساحرة الخبيثة”.
ورغم محاولة ماري ، مطالبة الاعلام للتفريق بين حياتها العلمية ، وحياتها الشخصية ، ورغم ان كل من حولها ، كان يحس بمدى استمرار حبها لزوجها المتوفي ، الا ان الاعلام لم يفهم حاجتها الانسانية للرجل ، دون ان يعني لها هذا الرجل، أي مساس بحبها وتعلقها وعشقها لزوجها ، الذي تركها ورحل.
رغم كل ذلك ، استغلت صجف باريس في بداية القرن العشرين ، قصة علاقة ماري بأحد مساعديها (بول) ، كي تشيطنها، وأظهر الاعلام الفرنسي ، نكرانه لانجازات ماري ، كما كشف هذا الاعلام ، تعصبه الفرنساوي ، بشتمها بجنسيتها ، معتبرا أنها بولندية ، أقل من الفرنسية. انه الاعلام الاعمى اللانساني ، والمتعصب.
وكماكانت طيلة حياتها ، صاحبة كبرياء ، واعتداد وثقة بالنفس ، فقد واجهت ماري كوري، الحملة الصحفية، التي تحولت الى تحرك من بعض الناس ، كانوا يتجمعون أمام منزلها، مطالبين برحيلها عن فرنسا.
واجهت (ماري)، كل ذلك بتماسك صلب ، وباصرار قوي مع احساسها بالغضب ، تجاه العنصرية ضد بولنديتها . ومع اشمئزازها من تدخل الاعلام في حياتها الشخصية، وعلاقتها الحميمة ، صمدت بقوة في وجه الهجمة الاعلامية الشرسة ضدها، وضد شخصيتها وحياتها، وجنسيتها.
حاربوا ماري كوري ، لانها امرأة ، ولانها غربية (بولندية) ، ونسووا انجازها العلمي، وماقدمته لمعنى فرنسا العالمي.حيث كانت أول استاذة (أنثى) في جامعة السوربون ، وحصلت على جائزة “نوبل” مرتين ، وقامت بابتكار التصوير الشعاعي ، ومعالجة مرض السرطان بالاشعة ، اضافة لاكتشاف النشاط الاشعاعي لعنصر الراديوم.
ومع ظلم الاعلام ، وعمى وعدم رؤيته للجوهري في حياة ماري كوري ، راح ليجعل من حياتها الشخصية الحميمة ، قضية يريدون بها ، ان يمسحوا كل انجازاتها الهائلة في التاريخ الانساني.
الاعلام ، لايكفي ان يكون كفوءا او ماهر مهنيا ، بل يجب ان يتمتع بزاوية نظر واسعة، ويحتاج قبل كل شيء، ان يملك ضميرا، يقدر كل انساني ، ويثمن كل انجاز . والاهم على الاعلام ان يمتلك مناعة كافية ، تجاه الانزلاق الى مغريات فضيحة ، تتعلق بمشاعر شخصية ، بدل التركيز على الانجاز المؤثر في الحياة الانسانية العامة.
الاعلام الحق ، والمهني والكفوء ، هو الاعلام صاحب الضمير ، والمتمتع بدقة النظر، والمالك للرؤية السابرة الكاشفة، وماعدا ذلك، لايبقى الا التفاهة ، والغباء ، وضحالة الضمير، وانعدام الانسانية.
تجربة ماري كوري مع الصحافة ، كانت فضيحة للاعلام ، وقوتها في مواجهة هذا الاعلام الفضيحة. كانت انجازا يضاف الى انجازاتها التي تفيد الانسانية ، وربما يرى البعض ، انها تستحق عليها “نوبل ثالثة”. ربما لانها ايضا ، شكلت درسا ، يعلمنا الكثير من كبرياء المرأة ، والكثير من اصرار العلماء ، ويعلمنا ضرورة مواجهة الاعلام التافه ، الأهبل ، والمضلل.
المهم ، ان نتعلم !