يتمتّع نجيب ميقاتي بدماثة شخصية تستحق الثناء. وأظن أنه من الرجال الذين يملكون موهبة الدماثة ربما كسببٍ بين أسباب نجاحه المذهل في عالم الأعمال ومنها شركة ضخمة كانت تسيطر على قطاع الاتصالات في ميانمار (بورما) باعها الشقيقان نجيب و طه وشركاؤهما مؤخّرا لشركة أميركية وبدا الأمر حسب بعض تقارير الصحافة الاقتصادية الغربية وكأنه انسحاب من البلد، ميانمار، الذي أصبح ذا مخاطر سياسية كبيرة بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش ضد الحكومة المنتَخَبة.

أسمح لنفسي بداية بأن أتوقع أن لا يستمر نجيب ميقاتي طويلاً في مجازفة تحمّل مسؤولية تشكيل ورئاسة حكومة جديدة في بلد منهار وما أعرفه عنه أنه بارع في القفز بين الألاعيب السياسية و بارع في اللعب الذي لا يقتل سياسيا وهو ما جعله يصل بنجاح إلى رئاسة الحكومة دون أن يصبح زعيما سياسيا حتى لو أصبح الرجل الأقوى انتخابيا في طرابلس.
نجيب ميقاتي رجل لا يجازف سياسيا ولكنه أصيب في خطأ يتعلّق بالسلوك المالي ربما سقط فيه في لحظة تشاطر كان بغنى عنها عندما رتّب مسألة القروض الإسكانية التي جَرَحَتْهُ بل جرَّحَتْهُ ونَقَلَتْهُ من متموّل ثعلب ذي موقع سياسي كالعديد من السياسيين إلى فيل سياسي أعرج وليس طبعا بطة عرجاء مما جعله أحد رموز سلوكيات الانهيار المالي والسياسي في نظر جيل ثورة 17 تشرين. الفيل الأعرج مصطلح أشْتَقُّهُ هنا طبعا من تسمية البطة العرجاء التي تعني في تقاليد السياسة الأميركية عجزا ما عن التحرك الطبيعي ولو بوجود صلاحيات إما بسبب نقص الوقت أو الشرعية أو تعقيد المشاكل السياسية التي تمنع الكونغرس إصدار القوانين المؤاتية. كذلك، في استخدام مختلف، كان كبار قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي المحيطين بالرئيس فرانسوا ميتران والمتصارعين حوله يُسَمَّون في الصحافة الفرنسية ب “الفِيَلَة”.
لا ينقص الفيلَ الذكاءُ ولكنه رغم قوته كائنٌ دفاعي تذهب كل كفاءته في القدرة على البقاء ولو تعرّض لهجوم من أُسودٍ جائعة كما شاهدتُ مرةً على تلفزيون “ناشيونال جيوغرافيك تي.في.”.
ليس نجيب ميقاتي رجل المجازفة التي يغري فيها فقط كونها فرصة تاريخية للإنقاذ. نجيب ميقاتي الفيل الأعرج هل يترك المهمة إلا إذا كان موعوداً وبشكل دقيق بالورشة الإنعاشية مع منظومة سياسية بكل أطيافها لا يأتمنها العالم على حليب أطفال فكيف بالإنقاذ وأقول الإنعاشية الممكنة وليس الإنقاذية المستحيلة قبل اتضاح المصير التسووي للعنكبوت الإيراني الضخم الممتد على ثلاث دول متلاصقة “هلالْ خصيبيّة” دون الرابعة اليمنية.
هل يفكّر رجال أعمال قديرون مثل نجيب ميقاتي بقيادة دعوات استثمار إلى رجال أعمال لبنانيين كبار لخلق الوظائف في لبنان؟ على حد علمي كمراقب ليس هذا النوع من رجال الأعمال من هذه الطينة إذا استثنينا قلة قليلة لا تزال موجودة ومصرة على الاستمرار. ومع ذلك تكاد لائحة الانسحابات من لبنان أو تخفيف الالتزامات تشمل كل الشركات الكبيرة.
الأرض السياسية اللبنانية متصحِّرة ولا يمكن يمكن تصور حتى هدنة على الأقل قبل أن نرى معنى ونطاق التفاوض الأميركي الإيراني وحدوده؟
نحن محتاجون إلى رجال استثنائيين يؤْمِنون في العمق بقدرة لبنان على البقاء.
الكلام الإنشائي لا ينفع هنا. سيسأل الناس أين القطاع التعليمي؟ مدارس النخبة في التعليم الخاص وبعضها مدارس ليست مقتصرة على المقتدرين ماليا ماذا سيكون وضعها في المدن والمناطق؟ الفرنسيون بدأوا بخطة جدية لدعم المدارس الكاثوليكية وطبعا مدارس البعثة العلمانية الفرنسية. هذا زمن يمكن أن يتحوّل إلى فرص للأذكياء والمتفوقين من أبناء الفقراء ومحدودي الدخل، كذلك الجامعات الكبرى من حيث مد مساحات النخبوية العلمية إلى مجالات أوسع غير مسبوقة.
كل هذا أمام رئيس الحكومة الجديد. دعم الجيش كمؤسسة تماسك للبلد أمرٌ استراتيجي ولكن دعم التعليم الخاص في برامج خاصة ترعاها السفارات هو بالنسبة لبقاء لبنان أمر استراتيجي مثل الجيش بل حتى هو استثمار للمستقبل مرفقاً بدعم القطاع الاستشفائي الذي لا يزال الأهم في المنطقة وهو قادر على استقطاب “السياحة” الاستشفائية من دول المحيط. لاحظ مثلاً كيف طلب العراقيون تعاونا استشفائيا تعليميا من ضمن صفقة النفط. وللعراقيين منذ العهد البريطاني تقاليد في التوجه للحصول على خدمات استشفائية في لبنان، ليس فقط رساميل الأثرياء العراقيين الذين لازالوا كثيرين بحكم العائدات النفطية بل الدولة العراقية نفسها التي كانت على سبيل المثال ترسل مجموعات من المصابين العراقيين بالسل في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين إلى مستشفى بحنس الذي كان في السابق متخصصا في الأمراض الصدرية عندما كان السل مرضا شائعا وخطيراً.
المعضلة الكبيرة جدا هي القطاع المصرفي الذي فقد ثقة الشعب اللبناني (المنهوب بين صناديق المصارف التي نقلت أموال أصحابه والعديد من شركائها السياسيين إلى الخارج وتتحايل لعدم إعادة أجزاء أساسية وليس ضئيلة منها). كذلك بعدما فقد القطاع المصرفي ثقة المودعين والمستثمرين العرب . فمن سيجرؤ على إعادة تنظيم بل الأدق القول على إعادة تأسيس القطاع المصرفي عبرإلغاء المصارف الحالية واستبدالها بفروع لبنوك من السوق العالمي تحت أسماء وإدارات أجنبية جديدة؟ وقد لامست حكومة الرئيس حسان دياب هذه الإعادةُ تأسيسٍ مع اقتراح إنشاء خمسة مصارف جديدة فقط والاستغناء عن المصارف الأخرى.
أعود للسؤال على ضوء هذه التحديات الضخمة هل نجيب ميقاتي هو رجل المرحلة بعدما بات المشروع الإصلاحي أوسع وأعمق وأبعد أمام حجم الانهيار؟؟؟؟ وهل السياسة اللبنانية بتقاليدها القاتلة لمشروع الدولة، حتى في ذروة العهد الشهابي الذهبيِّ الذِكر، قادرة على إنتاج أو إنجاح رجل سياسة أو دولة كائناً من يكن… فكيف الآن؟!
ربما الآن بالذات على نجيب ميقاتي أن يدير الدولة كشركة. كان هذا من المعيب قوله سابقا لكن ماذا أبقت المنظومة السياسية وتوابعها من الدولة لكي نتحفّظ على الدعوة بعدما صارت مهمة رؤساء الدولة تأمين الدواء والبنزين والمازوت والخبز والماء والكهرباء بشكل يومي إن لم يكن غير ذلك من الخدمات.
هناك حقبة نضالية طويلة في الداخل والخارج قبل نضوج الحلول. فالوضع الراهن هو وضع بلا حلول.
تبقى لي كلمة هي أنني كالكثيرين والكثيرات يتمنون نجاحا سريعا للحكومة الجديدة في مجال الخدمات وحظا أفضل لرئيسها.
“النهار”اللبنانية