
بيروت
عندما تكون الجريمة الأولى كبيرة وشاملة يصبح كل ما يفعله المتهم بها لاحقا مشبوها. هكذا مع فقدان الثقة بالقطاع المصرفي بعد وقوع ثلاثة ملايين مودع في فخ المصارف اللبنانية الذي جمّد ودائعَهم ويهدد بفقدانها صار من الصعب قبول أي اقتراح أو اقتراحات من جمعية المصارف يطرح حلولاً لأزمة الانهيار المالي. اقترفت المصارف جريمة تجميد الودائع هذه الصادمة للمجتمع اللبناني والمجتمعات العربية المعنية عبر مودعين عرب كثيرين لاسيما السوريين منهم، السوريين العاديين بمعظمهم.
كل ما يصدر عن جمعية المصارف بات مشبوهاً مع الأسف. فلا يمكن قبول حلف يمين مرتكب سرقة ثابتة. ليس عليّ أن أذكِّر أن المصارف ليست المسؤولة الأولى عن الانهيار المالي بل هي الطبقة السياسية الناهبة والهادرة للمال العام والتي تتحمّل المصارف مسؤولية التواطؤ معها في ما سيتحوّل إلى خداع للناس عبر إغرائهم بوضع ودائعهم عندها رغم معرفتها بحالة الإفلاس القائمة والآتية.
تتحدّث صحف كبرى في الغرب عن نهاية هونغ كونغ في ظل تحضير السلطات الصينية في بكين مؤخّراً قانونا يشدد الإجراءات على الجزيرة – المدينة بما يلغي في حال إقرارها الحكم الذاتي الذي اتفق عليه البريطانيون والصينيون عام 1997 في إطار الانسحاب البريطاني من الجزيرة وهو ما اشتُهِر بتسمية: “دولة واحدة ونظامان”. زرتُ هونغ كونغ آتياً من الفليبين عام 1998. كانت بريطانيا قد انسحبت، و المدينة دخلت في مرحلتها الجديدة. في الظاهر كانت الحياة طبيعية، ناطحات السحاب متألقة ، الصحف تصدر ومنها كالسابق صحف كبيرة باللغة الانكليزية، والكثافة السكانية الصينية للجزيرة واضحة في الشوارع المكتظة. هونغ كونغ لا تزال أحد أهم المراكز المالية في العالم مع ناتج محلي يقترب اليوم من الخمسمائة مليار دولار. إذن هي تحت خطر نهاية سياسية لا مالية بينما لبنان يدخل حقبته الجديدة وهو منهار اقتصادياً. لائحة المقارنات تطول ولائحة الاحتمالات المستقبلية معها.
إذا كانت هونغ كونغ فعلاً تنتهي في هذا الخنق القاري الذي تتعرض له من الأمبراطورية الأم فهي ستموت وحدها كمركز حريات سياسية بينما لبنان الذي يموت بطريقة أخرى هي الانهيار وتلاشي دوره كمركز مالي مع انتهاء القطاع المصرفي فيه فلن يموت وحيدا لأن الشرق الأوسط الذي يحيط به، آخذٌ بالموت باستثناء إسرائيل. ما يموت منذ سنوات هو فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان. هونغ كونغ الليبرالية السياسية تموت وحدها بينما الصين العظمى تصعد اقتصاديا وتتقدم كنموذج قائم بذاته وعدد من مدنها مراكز مالية عديدة ضخمة ربما لم تعد تحتاج إلى المركز المالي في هونغ كونغ، مع العلم أن هونغ كونغ وتايوان لعبتا دورا مهما في تسهيل انتقال الاستثمارات الأجنبية الضخمة إلى داخل الصين منذ التسعينات من القرن المنصرم.
انكسر جزء مهم وكبير من لبنان تحت وطأة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ولم يتعافَ رغم مرور عشرين عاماً على نهاية الحرب التي فجّرتها شرارة هذا الصراع بل لهيبه وانتقلت لاحقاً من لهيب إلى لهيب. اليوم ينوء لبنان تحت ثقل الصراع الأميركي الإيراني والعربي الإيراني ويزداد ضعفا وهشاشة مع وجود طبقة سياسية محلية فاسدة أفرغت مناعتَه الاقتصادية بصورة مريعة. لقد تحول النفوذ الإيراني المجسَّد بالقوة الداخلية اللبنانية المسيطرة على الطائفة الشيعية وهي حزب الله إلى عامل كسر للتوازن الداخلي اللبناني وعامل حماية لطبقته السياسية في آن معا! فحتى هذه الطبقة التي تدير خراب لبنان المالي والاقتصادي، وحزب الله من ضمنها، والمنقسمة حول ارتباط هذا الحزب الإقليمي ارتباطاً اندماجيّاً، هي نفسها وقد فقدت مرتكزات شرعيتها أمام الجيل اللبناني الشاب باتت بأشكال مباشرة تتحصّن بالانقسام كعنصر حماية لها، وهو ما يبادلها إياه حزب الله في استخدام الانقسام لتخفيف الضغط الداخلي عليه كما يظهر كل مرة يشتد فيها الحراك المدني، وبهذا المعنى هو الآن الحامي الأول لهذه الطبقة وسيفها الذهبي في منع التغيير.
لم يعد يملك لبنان المصاب بلعنات صراعات لا تنتهي، إلا أن يقاتل دفاعا عن كل جبهة على حدة من بقايا جبهاته الاستراتيجية: جبهة التعليم بما هي شبكات مدارسه وجامعاته الأساسية وفي مقدمها الجامعتان الأميركية واليسوعية، الدياسبورا اللبنانية النوعية في عواصم الغرب بكفاءاتها العلمية وإمكاناتها المالية، القطاع الإستشفائي كقطاع استقطابي لأغنياء المنطقة، الإعلام القديم والجديد، قطاع الإنتاج الفني الذي تتيح ليبراليته الاجتماعية أن يبقى عنصر إنتاج واستقطاب منافس في المنطقة وأحيانا بدأ يطل على المستوى العالمي. طبعاً السياحة إذا بقي سياح قادرون على شرب مياهنا الملوّثة وتحمّل روائح نفاياتنا المعروضة كما لو أننا أقمنا في الهواء الطلق أحد المعارض الأكثر مدعاةً للقرف في التاريخ الحديث.
أريد أن أختم بملاحظة لبنانية جدا. وهي أن قيمة الكتلة المسيحية اللبنانية تزداد أهميةً ومركزيةً وفرادةً في المنطقة بسبب كل هذه الأرصدة الثقافية والتربوية والفنية مع أنه مع الأسف لا تزال عقلية التنافس السياسي والسلطوي الضيّق تتحكّم بممارسات سياسيي ما بعد الحرب من مختلف الطائفيات. التنافس مشروع لكن نفتقد رؤيا داخلية تحتاج إلى نوع من الاستراتيجية القائمة على دعم الموقع المسيحي من حيث الانتهاء من عقدة الطائفية الضيقة الأفق التي تجري محاصرته على أساسها. النخب المسيحية كما النخب المسلمة خارج الطبقة السياسية تتشارك في كونها أكثر تقدماً من أجنحة الطبقة السياسية، وهذا ما أظهره حراك 17 تشرين ولو جهيضاً.
“النهار”اللبنانية