لم يعد ممكنا إخفاء الشروخ العميقة بين أطراف التحالف الاضطراري الذي يجمع روسيا وتركيا وإيران على المسرح السوري المشتعل بالنيران.
كأى شروخ سياسية فإنها لم تنشأ فجأة وتتحكم في دواعيها تصورات كل طرف لدوره وحجمه ومصالحه وما استدعى حاجته إلى توسيع المساحات المشتركة مع الطرفين الآخرين، لتجنب مخاطر بعينها.
كان اقتحام الجيش السورى، بإسناد جوي روسي، لمدينة «خان شيخون» الاستراتيجية في ريف إدلب الجنوبي، داعيا مباشرا إلى إثارة أزمة بين روسيا وتركيا لا يستهان بحجمها وتداعياتها على حسابات وموازين القوى في المشهد السوري.
ورغم أن الأزمة جرى تطويقها للحيلولة دون انفجارها في اجتماع طارئ جمع في موسكو الرئيسين «فلاديمير بوتين» و«رجب طيب أردوغان» إلا أن الشروخ التى تبدت تطرح أسئلة جوهرية حول الدور التركي وطبيعته واحتمالات الصدام معه في أوقات لاحقة، بالنظر إلى التباينات المعلنة والمكتومة في النظر إلى الأزمة السورية وترتيباتها المحتملة.
بالنتائج العسكرية أفضت عملية «خان شيخون» إلى سقوط أغلب طرق إمداد المسلحين، وأغلبهم ينشط ويعمل تحت العباءة التركية. وبالنتائج السياسية فإن استهداف محيط نقاط المراقبة التركية، قبل وبعد قمة موسكو، بدا أقرب إلى عريضة اتهام خشنة لأنقرة بأنها تستخدم تلك النقاط لإرسال ذخائر وتجهيزات للمسلحين.
في نفس العريضة الخشنة اتهام آخر أنها لم تلتزم بما ألزمت نفسها به فى اتفاقية «سوتشى» الموقعة بالمنتجع الروسي الشهير فى (17) سبتمبر (2018) من عمل على الفصل بين المعارضة والجماعات الإرهابية، وإقامة منطقة منزوعة السلاح، غير أن «أردوغان» عزا ذلك إلى أنه «لا يمكن الوفاء بالمسئوليات وفق الاتفاقية إلا بعد وقف هجمات النظام».
المشكلة أن «أردوغان» يصعب عليه مثل هذا الالتزام، فهو يؤدي عمليا إلى تقليص حجم الدور التركي في أي ترتيبات سياسية مقبلة، كما لا يمكنه الدفاع طويلا عن «جبهة النصرة» التي خرجت من عباءة «القاعدة» لتدخل عباءة استخباراته، فهي مصنفة إرهابية وفق الإجماع الدولي.
ما جرى بالضبط بعد موقعة «خان شيخون» أن مسار «أستانة» الذي جمع إيران إلى روسيا وتركيا ويلعب الكرملين فيه دور المايسترو وضابط الإيقاع أصبح مستقبله بين قوسين كبيرين.
عمليا هو شبه متوقف، أدى دوره في وقف التصعيد في مناطق بعينها ومنع الاحتكاكات بين أطرافه لكنه لم ينتج عنه أى حل سياسي للأزمة، أو تشكيل لجنة دستورية تجمع ممثلى النظام ومعارضيه قبل التفاوض مجددا تحت إشراف الأمم المتحدة فى جينيف، ولا أفضى إلى أى تنشيط فى ملفى إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
حسب وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافرورف»، فإن «تحرير الجيش السورى لأراضيه لا يعد خرقا لأى تفاهمات، بما فيها أستانة وسوتشي».
ورغم أن «بوتين» حاول في قمة موسكو الطارئة أن يهدئ من مخاوف «أردوغان» بالحديث عن تفهمه لقضية الأمن على حدوده الجنوبية إلا أنه أكد، وهذه نقطة جوهرية، على ضرورة «اتخاذ الترتيبات اللازمة لإزالة بؤر الإرهابيين في منطقة إدلب شمال سوريا».
كما حاول أن يربط بين التزامات اتفاقية «سوتشي» ومشروع «المنطقة الآمنة في شمال سوريا»، التي وصلت تركيا إلى تفاهمات بشأنها مع الإدارة الأمريكية عكس ما كانت تتوقعه موسكو من رهان على إحياء اتفاق «أضنه» المبرم بين دمشق وأنقرة في عام (1998) بدلا من الاعتماد على تفاهمات مشكوك في مستوى التزام الولايات المتحدة بها. بتعبير مستشارة الرئيس السوري «بثينة شعبان» فإن «تفاهمات سوتشي باتت من الماضي».
رغم أن دمشق لم تكن طرفا مباشرا فى تلك التفاهمات، ولا شاركت فى مسار «أستانة» مطلع (2017)، الذى أسس لها، فإنها لاعب لا يصح الاستهانة بدوره وقدرته على الحركة شبه المستقلة بين تباينات وتناقضات حلف الضرورة.
الشروخ مع تركيا مرشحة للتفاقم مع مزيد من تقدم القوات السورية داخل إدلب، لكنها سوف تظل لمرحلة ما تحت عمليات الترميم والصيانة، فالمصالح المشتركة ما زالت تستدعي تحالف الضرورة.
يلفت الانتباه أن اللاعب الإيراني يتابع السجال الروسي التركي ولا يتدخل فيه، الموضوع يعنيه تماما ويدخل في حساباته ومصالحه، لكنه يتجنب أي صدام معلن مع أنقرة في الأوقات الصعبة التى يمر بها في أزمة العقوبات الأمريكية المفروضة عليه.
هو نفسه له شروخ ذات طبيعة أخرى مع المايسترو الروسي.
لديه شكوكه فى أن الروسي قد يتخلى عنه قرب نهاية الطريق بعد أن يستنزف حلف الضرورة أهدافه، فهو حلف تأسس على الاعتبارات العملية والأمنية أكثر من أى اعتبارات أخرى، التكتيكي فيه يغلب الاستراتيجي والحسابات المتنافرة تؤثر يقينا على مستقبله.
في العمليات العسكرية الإسرائيلية التي استهدفت مواقع قيل إنها إيرانية في جنوب سوريا لم تبد روسيا ممانعة يعتد بها، ولا اعترضت شبكتها الصاروخية الضربات التي جرت.
كان ذلك تعبيرا عن تفاهمات شبه معلنة مع تل أبيب تتيح توجيه مثل هذه الضربات من وقت لآخر شرط ألا تمس أى مواقع روسية، رغم المستوى غير المسبوق من الشراكة بين موسكو وطهران في العمليات الميدانية بالداخل السورى.
وكان مثيرا ذلك اللقاء الذى جمع فى القدس المحتلة فى يونيو الماضى ثلاثة مستشارين للأمن القومى: الأمريكى «جون بولتون»، والروسى «نيكولاى باتروشيف»، والإسرائيلى «مائير بن شبات»، باقتراح من الرئيس الروسى «بوتين» لمناقشة مسائل أمنية في الإقليم، بالتحديد الدور الإيراني فيه.
وفق التفاهمات التى جرت كان يتعين أن تمتنع إسرائيل عن مهاجمة المواقع العسكرية الإيرانية في سوريا طالما لم تعرضها للخطر بشكل مباشر وطالما هي بعيدة عن الحدود، على أن تلتزم روسيا العمل على إبعاد الإيرانيين إلى شمال سوريا وإبعاد أنصارها عن الجنوب السوري مائة كيلو متر على الأقل، وهو ما لم يحدث.
وفق محللين روس ، بدا الأمر كما لو أن موسكو قد حاولت. هكذا تتبدى شروخ عميقة أخرى، أو تباينات غير قابلة للإخفاء، لكنها تحت سقف يمكن السيطرة عليه.
“الشروق”المصرية