aren

ما وراء التصعيد العسكري الروسي في إدلب؟\\ كتابة :د.حسن أبو هنية
الخميس - 6 - يونيو - 2019

 

تشهد المنطقة المنزوعة السلاح في أرياف إدلب وحماة وحلب واللاذقية منذ 26 إبريل الماضي تصعيدا عسكريا من قوات النظام والمليشيات الإيرانية باسناد جوي روسي، وحيث وثق المرصد السوري مقتل 948 شخصا من مدنيين ومقاتلين، وقد نفذ النظام والروس نحو 22500 ضربة جوية وبرية تسببت بمجازر وكوارث إنسانية وأجبرت أكثر من 300 ألف مدني على النزوح وسط صمت دولي، وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت أن التصعيد أدى خلال شهر إلى نزوح 270 ألف شخص إلى مناطق أكثر أمنا غالبيتها بالقرب من الحدود التركية، مشيرة إلى أن 23 منشأة طبية تعرضت للقصف، ويقع التصعيد الأعنف على الإطلاق ضمن المنطقة الممتدة من جبال اللاذقية الشمالية الشرقية، وصولاً إلى الضواحي الشمالية الغربية لمدينة حلب مروراً بريفي حماة وإدلب.

ثمة توافق على أن التصعيد الجاري في إدلب رغم قسوته وحدته واتساعه لن يتحول إلى معركة نهائية شاملة في إدلب، ويهدف إلى بعث رسائل لأميركا وتركيا، وذلك بعد فشل الجولة الـ 12 من محادثات «أستانة»، فقد جاء تصعيد الحملة العسكرية عقب الحديث عن تقارب أميركي تركي، ورغم أن التصعيد أكثر شراسة من حملات سابقة، إلا أن سيناريو شن هجوم بري شامل على إدلب غير مرجح في الوقت الراهن، نظرا للكلفة العسكرية الباهظة، إلى جانب الكلفة الإنسانية المرتفعة، فضلا عن الكلفة السياسية الهائلة، إذ لا تزال روسيا متمسكة بأولوية الحفاظ على علاقتها مع تركيا، وتفضل المضي قدما في مسار العملية السياسية في سورية، والتقدم في تأسيس لجنة صياغة دستور جديد لسوريا، وأقصى ما تطمح إليه روسيا من الحملة الحالية خلال هذه المرحلة الحصول على موطئ قدم في إدلب، مقابل السماح لتركيا بتعميق منطقة سيطرتها الحالية شرق الفرات، فمن شأن الهجوم الشامل إفشال العملية السياسية.

تصعيد الحملة العسكرية على إدلب يأتي بالتزامن مع التطورات التي تشهدها المنطقة في ظل تنامي سياسة حافة الهاوية التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في التعامل مع إيران، وما ترتب عليها من إعادة ترميم وبناء التحالف الأميركي التركي، وخلق مزيد من الشكوك في العلاقة بين ثلاثي فريق «أستانا» الروسي والتركي والإيراني، والذي بموجبه تجنبت محافظة إدلب الواقعة في شمال غرب سورية والمناطق المحيطة بها هجوماً عسكرياً شاملاً.

شكلت محافظة إدلب عقدة التفاهمات الدولية والإقليمية، إذ يقطن المعقل الأخير للمعارضة نحو ثلاثة ملايين نسمة، معظمهم مدنيون، وإذا أضيف إليها بقية مناطق المعارضة شمال غرب سوريا يصل عدد السكان إلى أربعة ملايين شخص، بحسب ما وثق فريق «منسقي الاستجابة»، ويعتمد ثلثاهم على المساعدات الإنسانية لمجرد البقاء على قيد الحياة.

تكمن مخاطر التصعيد شمال غرب سوريا كونها تستضيف آلاف المسلحين الجهاديين، إضافة إلى بعض أشد معارضي النظام السوري، وحسب تقرير لمجموعة الأزمات الدولية بعنوان «أفضل الخيارات السيئة لإدلب السورية»، فقد أشارت روسيا والنظام السوري إلى أنهما لن تسمحا باستمرار الوضع الراهن في إدلب وأنهما حريصتان على استعادة دمشق للمنطقة في أقرب فرصة ممكنة. لكن هجوماً للنظام مدعوماً من روسيا سيحدث كارثة إنسانية، ويخرج أعداداً كبيرة من اللاجئين بشكل يؤدي إلى زعزعة استقرار تركيا المجاورة ويبعثر مسلحين قد يحدثون فوضى عارمة عالمياً. بدلاً من ذلك، ينبغي على تركيا وروسيا أن تأكدا التزامهما بوقف إطلاق النار الذي ضمنتاه بشكل مشترك في إدلب. وينبغي أن تظهر تركيا أنها تحرز المزيد من التقدم في تنفيذ بنود الاتفاق، بما في ذلك تعزيز وجودها العسكري وتوسيع نطاق دورياتها داخل إدلب لمنع وقوع انتهاكات لوقف إطلاق النار وإعادة فتح الطرق السريعة أمام التجارة.

لا تزال دينامية «أستانا» أفضل الخيارات الممكنة، فمنذ سبتمبر 2017، ساعد وقف جزئي لإطلاق النار بموجب اتفاق «خفض التصعيد» بين تركيا وإيران وروسيا في حماية إدلب، كما ومنع اتفاق «سوتشي» الذي تم التوصل إليه في سبتمبر 2018 بين تركيا وروسيا، ما كان يبدو هجوماً وشيكاً للنظام وعزز الاتفاق السابق، حسب سام هيلر، لكن أحد بنود اتفاق «خفض التصعيد» الأصلي ألزم جميع الأطراف بعزل ومحاربة التنظيمات الجهادية، كما أن اتفاق سوتشي حدد إجراءات إضافية لتطهير منطقة منزوعة السلاح داخل إدلب من «التنظيمات الإرهابية المتطرفة»، حيث يقع عبء تنفيذ اتفاق سوتشي بشكل رئيسي على تركيا، التي قصّرت حتى الآن في الوفاء بمسؤولياتها كما يؤكد النظام وحلفاؤه، حيث تصاعدت الهجمات المتبادلة بين مسلحي إدلب وقوات النظام، ورغم تسيير دورية تركية في المنطقة منزوعة السلاح في 8 مارس الماضي يشكل تقدماً كبيراً، لكن اتفاق سوتشي يتطلب المزيد من النقاش والتكيف مع التطورات المتلاحقة.

تشكل التقاطعات الإقليمية والدولية مشهد التصعيد في إدلب وشمال غرب سوريا، فقد تواترت الرواية الأميركية عن وصول مسار أستانا إلى طريق مسدود، في ظل تحو العلاقات بين الأطراف الفاعلة في الشأن السوري، فقد صرح المبعوث الأميركي إلى سوريا جيمس جيفري أن مسار أستانا قد فشل، وإن على الضامنين الذهاب إلى جنيف للتحدث مع الأمم المتحدة بدلاً من عقد اللقاءات في وسط آسيا، وتعكس التصريحات الأميركية نوعا من التقارب التركي-الأميركي، وسط تفاؤل حول الاتفاق على ملف شرق الفرات، الذي أصبحت ترتيباته شبه مكتملة، والاتفاق على بقاء القوات الأميركية في المنطقة، وتنامى الحديث عن قبول واشنطن دخول قوات تركية إلى شرق الفرات، ولذلك جاء التصعيد لممارسة مزيد من الضغوطات الروسية على تركيا، في محاولة قطع الطريق على التقارب بين واشنطن وأنقرة، وفرض واقع جديد يمهد لتفاهمات جديدة.

لا يزال من المبكر الحديث عن حملة شاملة على إدلب، رغم أن الأساس النظري للحملة الشاملة تضمنته تفاهمات أستانا وسوتشي، بالالتزام بالتخلص من الحركات الموسومة بالإرهابية دون تمييز بين نهجين جهاديين، أحدهما محلي براغماتي تقوده هيئة «تحرير الشام»، وثانيهما عالمي راديكالي تمثله جماعة «حراس الدين»، ورغم وجود خلافات إيديولوجية ومنافسات استراتيجية بين مكونات الحالة الجهادية في شمال غرب سوريا، لكنها لا تتجه نحو الصدام، ذلك أن المواجهة العسكرية بين الجماعات الجهادية ترتبط غالبا بمواضعات وأجندة دولية، وذلك يتطلب صفقة مع أحد الأطراف، وهو ما يزال بعيدا رغم سعي هيئة «تحرير الشام» تقديم نفسها قوة سياسية بعد أن فرضت نفسها كقوة قتالية، وهي مسألة يحاول الأتراك تسويقها على روسيا التي تصر على عودة إدلب وبقية المناطق للسيادة السورية سلما أو حربا، فاتفاق سوتشي أجّل مسألة الحرب ولم يلغها تماما.

خلاصة القول أن الحملة على إدلب وشمال غرب سوريا جاءت على خلفية التطورات الدولية والإقليمية، ومحاولة إعادة بناء التحالفات، فقد بات واضحا أن الولايات المتحدة لن تنسحب من سوريا في المدى المنظور، وهي تعمل على تحقيق تقارب مع تركيا في ملفات عدة، وقد بات واضحا أن دينامية أستانا ــ سوتشي رغم أنها أفضل الخيارات الممكنة لإدلب وصلت إلى طريق مسدود، ولا شك أن روسيا تعمل على عدم خسارة الشريك التركي، لكنها تسعى إلى فرض وقائع جديدة تفضي إلى تفاهمات جذرية، حيث تبعث روسيا مع حلفائها الإيرانيين وقوات النظام رسالة خشنة بخلط الأوراق الدولية والإقليمية عبر مداخل خطر اللاجئين ومخاطر بعثرة الجهاديين ودفعهم إلى مزيد من الردكلة والتطرف.

“الرأي” الأردنية