بدأت تركيا تدخلها العسكري في سوريا في أغسطس من العام 2016، بما أسمته عملية درع الفرات، تحت ذرائع التصدي لتنظيم «داعش» وتحجيم التهديد الكردي على حدودها، وكانت هذه بداية لمأزق سياسي وعسكري سيتسع ويتعمق باستمرار، وهو يقترب من ذروته بانتهاء حالة السيولة الأمنية التي كانت السمة البارزة لمناطق شمال غرب سوريا والمناطق المحاذية للحدود مع أنقرة، ودخول قوات الجيش السوري إلى مدينة خان شيخون الاستراتيجية.
لقد كانت الضربة الجوية التي استهدفت قافلة الإمدادات العسكرية التركية منتصف الأسبوع الجاري رسالة تحذير واضحة بضرورة إنهاء وتصفية مواقعها العسكرية داخل الأراضي السورية، ووقف دعمها للجماعات المسلحة التي أنشأتها وسلحتها وتلك المرتبطة بجماعات الإرهاب. وتشير أحدث التقارير على الأرض الى انسحاب الجماعات المسلحة الموالية لأنقرة من خان شيخون في جنوب إدلب ومن ريف حماة الشمالي المجاور، وهو انسحاب يجعل أكبر نقطة مراقبة تركية في المنطقة بموجب التفاهم الروسي التركي بحكم المحاصرة والمعزولة.
وجاء انسحاب الفصائل بعد ساعات من سيطرة القوات السورية بإسناد جوي روسي على أكثر من نصف المدينة، وتمكنها من قطع الطريق الدولي حلب – دمشق، وهو طريق الإمدادات الرئيسي للقوات التركية. هذا التقدم الميداني من شأنه أن يطرح قضية سحب الوجود العسكري التركي من سوريا سواء تم ذلك بالتنسيق مع الحكومة السورية أو عبر تحركات أحادية مثلما حدث في تدخلها العسكري في هذا البلد العربي.
لم يعد للحكومة التركية مناص من مواجهة هذا الواقع الجديد والتعامل معه، فوجودها العسكري على الأراضي السورية بلا غطاء قانوني وينتهك سيادة دولة مستقلة، وهو بالتالي في مرمى العقوبات الدولية، علاوة على أن اتفاقات خفض التصعيد الموقعة مع روسيا بدأت تتساقط فعلياً على الأرض بالمشاركة الروسية النشطة في إنهاء الوجود المسلح الموالي لتركيا في مناطق شمال غرب سوريا.
لقد فرضت تركيا وجودها العسكري في سوريا في ظروف مغايرة للظروف الراهنة، ولم تكن هناك حينها تساؤلات حول قانونية هذا التدخل العسكري ومبرراته الأخلاقية. لكن هذا الوجود بات اليوم مكشوفاً على الصعيد السياسي وضعيفاً على الصعيد العسكري، فالقواعد التركية باتت محاصرة أو تكاد.
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يحلم بأن يكون وجوده العسكري ضامناً للفوز بنفوذ سياسي في مستقبل سوريا. كانت شهيته مفتوحة على عمليات إعادة الإعمار وأموال المانحين بعد انتهاء الحرب حسب معادلاته وحساباته الخاصة لنهاية النزاع. كان يحلم بتحقيق مكاسب سياسية في الداخل واكتساب ولاء الأحزاب القومية عبر عمليته ضد الأكراد. كل ذلك لم يحدث وأصبح الوجود العسكري مأزقاً مفتوحاً على كافة الاحتمالات.