aren

لمشهد الجولان حسابات أخرى \\ كتابة : د. محد السعيد ادريس
الأحد - 31 - مارس - 2019

 

المشهد الذي وقَّع فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره المؤيد لفرض السيادة «الإسرائيلية» على هضبة الجولان السورية المحتلة بقدر ما جاء هزلياً وافتعالياً بقدر ما أدى إلى تعرية المكانة الدولية للولايات المتحدة كقوة عالمية مؤسسة للنظام العالمي الذي يحكم العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ظلت تُحمِّل نفسها مسؤولية الدفاع عن القيم والمبادئ التي تحكم هذا النظام كما هي مدونة في ميثاق الأمم المتحدة.

المشهد كان متكرراً لمشهد آخر بغيض للرئيس الأمريكي نفسه عندما جلس محاطاً بتلك الجوقة من محاسيب «اللوبي الإسرائيلي» من العاملين في إدارته، ومن الإعلاميين ليوقع وثيقة اعترافه بالقدس عاصمة موحدة (الشرقية والغربية) وأبدية لدولة الاحتلال «الإسرائيلي»، ثم بعد التوقيع باسمه الذي حرص على أن يكون بقلم غليظ الخط ويحتل مساحة واسعة من الصفحة، فإذا به يقوم برفعه أمام الشاشات كي يراه العالم، ولكن ما رآه العالم بهذا المشهد هو الحقيقة المرة التي باتت تحكم أداء إدارة ترامب ونكوصها عن تعهدات والتزامات سابقة للولايات المتحدة، وخرقاً لأبسط قواعد القانون الدولي. ورغم رداءة هذا المشهد إذا بالرئيس الأمريكي يتعمد تكراره مرة أخرى، وبالصورة نفسها وعرضها المسرحي الهزلي، لكن الجديد هذه المرة أن بنيامين نتنياهو كان بجواره وهو يوقع قرار الاعتراف الأمريكي بالسيادة «الإسرائيلية» على الجولان السوري.

هزلية المشهد لا ترجع فقط إلى مضمونه اللا أخلاقي واللا قيمي بل وأيضاً في استخفاف نتنياهو برئيس أكبر دولة في العالم وشحنه بما يكفي من الغوايات والإطراءات لإصدار قرار يتجاوز به كل القوانين والأعراف الدولية. نتنياهو عرف كيف يحرك الرئيس الأمريكي إلى حيث يريد عندما أفاض في إطرائه وتحفيزه وتصويره إلى أن القدر جاء به دون غيره كي ينقذ «إسرائيل» من جيرانها الأشرار الذين يهددون بقاءها ووجودها وأمنها، وأنه صاحب الفضل الأكبر على «إسرائيل» في مواجهة كل هؤلاء الأشرار، فهو الذي أصدر قرار اعتبار القدس عاصمة موحدة وأبدية «لإسرائيل» وهو الذي اتخذ قرار الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وهو الذي سيتخذ قرار الاعتراف بالجولان جزءاً من السيادة «الإسرائيلية».

وكي تكتمل هزلية المشهد كان لابد من التمادي في تضخيم التهديدات التي تعرّض أمن ووجود «إسرائيل» للخطر، والتي تبرر قرار الاعتراف بضم مرتفعات الجولان لمركزية دورها في حماية الأمن «الإسرائيلي».

واضح تماماً من تحليل الخطاب السياسي «الإسرائيلي» والأمريكي أن الأمر جاء مدبراً ومفتعلاً، فصورة المشهد جاءت «فاضحة» بكل المعاني، وأنه يخدم بالأساس معركة نتنياهو الانتخابية كما يخدم الصورة المهتزة للرئيس الأمريكي داخل الولايات المتحدة في مواجهة منافسيه من الديمقراطيين داخل الكونجرس، وكان حريصاً على أن يظهر أمامهم أنه الأكثر تأييداً ودعماً «لإسرائيل». وكان نتنياهو في أشد الحاجة هو الآخر للحصول على نجاح يتاجر به انتخابياً أمام منافسيه، لكن كان لا بد من مبرر فوجدوا في الأمن «الإسرائيلى» سببا لصدور هذا القرار، وتعمد «الإسرائيليون» ذلك عندما ربطوا بين مركزية الجولان في الدفاع عن أمن «إسرائيل» ووجودها وبين توسع النفوذ الإيرانى في سوريا، وطموح إيران و«حزب الله» تحويل الجولان إلى جبهة مواجهة ضد «إسرائيل»، كما هو حال الجنوب اللبناني.

نتنياهو توجه بطلب الاعتراف الأمريكي بالسيادة «الإسرائيلية» على الجولان إلى جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي عندما زار تل أبيب عقب قرار الرئيس ترامب الانسحاب من سوريا. وعندما جاء السيناتور الجمهوري ليندسي جراهام إلى «إسرائيل» قبل ثلاثة أسابيع حرص نتنياهو على اصطحابه إلى الجولان ليؤكد له مدى خطورة موقع هذه المرتفعات بالنسبة للأمن «الإسرائيلي» في أي صراع بات مؤكداً مع إيران على الأرض السورية، عندها وعد جراهام، المقرب من الرئيس ترامب، على نحو ما وعد بولتون بأنه عندما يعود إلى واشنطن «سيعمل على إقناع الرئيس ترامب بالاعتراف بضم «إسرائيل» للجولان».

وإذا كان المشهد قد انتهى باحتفال باهت بتوقيع قرار الاعتراف فذلك لا يعني أن الأمور قد حسمت، ربما العكس تماماً. فهذا القرار الأمريكي سوف يرتب تداعيات شديدة السلبية بالنسبة للإدارة الأمريكية و«إسرائيل». فمن ناحية سيفسد على ترامب «صفقة قرنه» المزعومة، لأن هذا القرار يتجاوز كل حدود الاتفاقات الخاصة بعملية السلام. كما أن القرار يعد إيذاناً أمريكياً صريحاً بإطلاق ودعم مشروع «إسرائيل الكبرى» وإعطاء ضوء أخضر ل«إسرائيل» كي تتمدد على حساب جيرانها تحت مزاعم حاجة الأمن، وهذا الأمر من شأنه أن يحدث تداعيات سلبية على مواقف الداعمين لصفقة القرن الأمريكية التي بات من المستحيل الدفاع عنها.

فالعالم كله ضد هذا القرار، و«الإسرائيليون» منقسمون عليه، ولم يعد ممكناً بعد الآن أن تخاطب «إسرائيل» العالم بلغة «الاضطهاد» بعد أن تحولت رسمياً إلى «دولة توسعية»، لكن الأهم أنه سيعفي سوريا من التزاماتها بخصوص اتفاق فك الاشتباك الموقع عام 1974 مع «إسرائيل»، ويعطيها كل الحق في العمل، بدعم كل الأصدقاء، لتحرير أرضها المحتلة في الجولان، وعندها سيكون الأمر دفاعاً عن النفس ومشروعاً ومعترفاً به قانونياً، وعندها فقط سيكون الأمن «الإسرائيلي» مهدداً، وسيكون نتنياهو، معنياً قبل غيره، إدراك أن لقرار ترامب تداعيات أخرى عليه أن يدفع أثمانها.

“الخليج”