ترجمة خاصة
التجدد الاخباري – مكتب واشنطن
إعادة الإنتاج
كتب العالم السياسي “روبرت جيلبين” ذات مرة أنه “لا أحد يحب الواقعية السياسية”، كما كان يُنظَر إلى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كيسنجر” وإلى تعليقاته الأخيرة التي حثَّت على محادثات السلام مع موسكو، والتوصُّل إلى تسوية إقليمية في أوكرانيا، والحاجة إلى تجنُّب القطيعة الدائمة مع روسيا، على أنها دليل واضح على الإفلاس الأخلاقي للواقعية، وهي النظرة التي أعارضها ، بل بالعكس أرى أن الحرب المستمرة في أوكرانيا ، هي “أعادت إنتاج” المدرسة الواقعية.
https://foreignpolicy.com/2022/06/13/why-do-people-hate-realism-so-much/
ان الواقعيين من مختلف المشارب حذروا، مراراً وتكراراً، من أن السياسة الغربية تُجاه روسيا وأوكرانيا قد تؤدي إلى مشاكل خطيرة، وهي تحذيرات تجاهلها الذين زعموا أن سياسة “الباب المفتوح” لحلف الناتو ستؤدي إلى سلام دائم في أوروبا. ورغم اندلاع الحرب وتدمير أوكرانيا، وفَقْد الكثير من الأرواح، لم يتخلَّ معظم أنصار “سياسة الباب المفتوح” عن وجهات نظرهم، ويُصرُّون على ضرورة استمرار الحرب حتى هزيمة روسيا بالكامل وإضعافها إلى حد كبير، فيما يتم الهجوم على من تخلَّى عن هذه الأفكار، وفكَّر في هذه القضايا بأسلوب صارم وواقعي.
مبدآن رئيسيان
الحرب الأوكرانية أثبتت فاعلية الأفكار الواقعية. وبناء عليه ، يوجد مبدأين رئيسيين في المدرسة الواقعية يرتبطان – بطريقة أو بأخرى – بما يجري في الصراع الأوكراني:
1– الديمقراطيات الراسخة ليست استثناء بالنسبة إلى الواقعية: يدرك الواقعيون أن السياسة الداخلية للدول غير الديمقراطية تكون مختلفة إلى حد كبير عن الدول الديمقراطية، مثل ألمانيا النازية من جهة وبريطانيا الإدواردية من جهة أخرى. ولكن فيما يسارع المثاليون إلى تقسيم العالم إلى دول “جيدة” و”سيئة” ويلقون اللوم بمشاكل العالم بالكامل تقريباً على النموذج السيئ، فإن الواقعية تدرك أنه حتى الديمقراطيات الراسخة ستفعل أشياء مروعة للآخرين عندما تعتقد أن مصالحها الحيوية على المحك.

عامل يقطع أنف آخر طائرة أوكرانية من طراز Tupolev-22M3 ، وهي طائرة استراتيجية سوفيتية الصنع قادرة على حمل أسلحة نووية في قاعدة عسكرية في بولتافا ، أوكرانيا في 27 حويران\ يناير 2006. تم تدمير ما مجموعه 60 طائرة وفقًا للولايات المتحدة. – اتفاقية نزع السلاح الأوكرانية. / AFP
مثال – تدخل الولايات المتحدة في فيتنام في الستينيات من القرن الماضي خوفاً من أن تصبح فيتنام الجنوبية جزءاً من العالم الشيوعي. ودافع القادة الأمريكيون عن هذه الإجراءات بأنها كانت ضرورية للأمن القومي للولايات المتحدة، رغم أن فيتنام كانت دولة ضعيفة وعلى بُعد أكثر من 8000 ميل من الولايات المتحدة القارية.
المثال السابق لسوء السلوك الأمريكي وغيره من الأمثلة، كالتدخل في نيكاراجوا، وغزو العراق، لا يبرر ما تفعله روسيا اليوم في أوكرانيا على أقل تقدير، لكنه لا بد أن يؤدي إلى رد فعل قاسٍ من الذين يسعون إلى تأطير الصراع على أنه لعبة أخلاقية بسيطة بين مُعتدٍ وحشي وضحية بريئة.
2– الدبلوماسية والتسوية أداتان لحل الخلافات: يفترض الواقعيون أن الأفعال الشريرة تحدث، وأن بعض الدول تتصرف بأسلوب أسوأ من غيرها، لكنهم يفهمون أيضاً أن جميع الدول تتنافس من أجل الأمن في عالم غير كامل؛ لذا يرى الواقعيون الدبلوماسية والتسوية أداتين حاسمتين لإدارة الخلافات وحل الاختلافات دون استخدام القوة العسكرية.
وعلى النقيض من أفكار الليبراليين والمحافظين الجدد وغيرهم من المثاليين – التي تفترض أن القادة أو الأنظمة الشريرة يتحملون المسؤولية الكاملة عن كل المشاكل في العالم، ومن ثم، يكون الحل الوحيد هو القضاء على الأشرار نهائياً – ان محاولة التخلص من الحكومات التي تُعتبر “شريرة” قد تؤدي إلى قتل الكثير من الناس. وفي بعض الظروف – مثل الحرب الحالية في أوكرانيا – يمكن أن يؤدي ذلك إلى صراع أوسع وأكثر خطورةً.
أسباب الكراهية
بالرغم من القدرة التفسيرية للأفكار الواقعية، فإن “المدرسة الواقعية” تعرضت لكراهية واسعة النطاق. وترتبط هذه الكراهية بعدد من الأسباب الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:
1– العداء التاريخي في الولايات المتحدة: كان يُعترَف بالمدرسة الواقعية في الولايات المتحدة باعتبارها تقليداً مهماً في دراسة العلاقات الدولية، لكنها لم تكن شائعة فيها، بل كان هناك عداء وثيق تجاهها ؛ ففي عام 2010 – على سبيل المثال – انتقد خطاب “ديفيد ليك” الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو أمام جمعية الدراسات الدولية؛ الواقعية والنماذج الأخرى باعتبارها “طوائف” و “أمراضاً” تصرف الانتباه عن “دراسة الأشياء المهمة”.
وخلال عقد التسعينيات، عندما اعتقد الكثيرون أن القيم الليبرالية تنتشر في جميع أنحاء العالم، نشر عالم السياسة “جون فاسكيز” مقالاً مطولا في “American Policy Science Review” يدَّعي أن الواقعية كانت برنامج بحث “انتكاسياً” يجب تجاهله.
2– تقديم الواقعية وجهة نظر قاتمة ومتشائمة: تفترض الواقعية أن الناس مَعيبون على نحو لا يمكن إصلاحه، وأنه لا طريقة لإزالة كل تضارب المصالح بين الأفراد أو المجموعات الاجتماعية التي يُشكِّلونها. علاوةً على ذلك، تُسلِّط جميع إصدارات الواقعية الضوء على انعدام الأمن الناتج عن غياب سلطة عالمية شاملة يمكنها فرض الاتفاقيات ومنع الدول من أن يهاجم بعضها بعضاً. وعندما يكون العنف ممكناً، فإن الجماعات البشرية من جميع الأنواع – سواء كانت قبائل أو دولة مدنية أو عصابات شوارع وميليشيات أو دولاً – ستبحث عن طرق لتصبح أكثر أمناً؛ ما يعني أنها ستميل بقوة إلى التنافس على السلطة.
وعلى عكس ما يؤكده بعض النقاد، لا يرى الواقعيون هذه السمات على أنها قوانين جامدة تُحدِّد كل خطوة قد تقوم بها دولة ما، كما أنهم لا يعتقدون أن التعاون مستحيل، أو أن المؤسسات الدولية لا قيمة لها، وهم – بالتأكيد – لا يعتقدون أن البشر يفتقرون إلى القدرة على اتخاذ خيارات مختلفة بينما يسعون جاهدين لحماية مصالحهم. بل يؤكد الواقعيون ببساطة أن الفوضى الدولية – أي غياب سلطة مركزية شاملة – تخلق حوافز قوية للتنافس بين الدول، وهي حوافز يصعب إدارتها أو التغلب عليها؛ لذلك يتردد الكثير من الناس في تبني مثل هذه النظرة المتشائمة للحالة الإنسانية.
3– التركيز المفرط على سياسات القوة: يؤدي تركيز الواقعية على سياسات القوة إلى افتراض أن مؤيديها يركزون بإفراط على القوة العسكرية، ويميلون إلى تفضيل الحلول المتشددة. ان هذا الرأي خطأ. وبصرف النظر عن كيسنجر (الذي كان من الصقور خلال حرب فيتنام ودعم الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003)، فإن أبرز الواقعيين يميلون عموماً إلى الحمائم. وكان كل من “جورج ف. كينان”، و”رينولد نيبور”، و”والتر ليبمان”، و”هانس ج. مورجنثاو”، و”كينيث والتز” من أوائل النقَّاد لتورُّط الولايات المتحدة في فيتنام، وكان خلفاؤهم الأكاديميون من الأصوات الأكثر بروزاً التي عارضت مسيرة إدارة بوش للحرب ضد العراق في عام 2003.
4– التقليل من أهمية القيم والأخلاق: بالرغم من النظرة الشائعة للواقعية على أنها غير مبالية للاعتبارات الأخلاقية أو حتى معادية لها، فإن “والت” يرى أن تراجع اهتمام الإطار النظري للواقعية بالقيم أو المثل العليا لا يعني معاداة الواقعية لها؛ إذ إن معظم الواقعيين يسترشدون أيضاً بالالتزامات الأخلاقية العميقة، وهم على دراية بالطبيعة المأساوية للسياسة الدولية وأهمية محاولة التصرف بأسلوب أخلاقي على الرغم من الضغوط للتصرف بطريقة أخرى. وبالنسبة إلى الواقعيين، لا تكفي الأهداف النبيلة والنوايا الحسنة إذا أدت الخيارات الناتجة إلى مزيد من انعدام الأمن أو معاناة الإنسان.
5– الواقعية لا تؤمن بالاستثنائية الأمريكية: إن الواقعية لا تحظى بشعبية في الولايات المتحدة لأنها تتعارض مع الاعتقاد السائد بالاستثنائية الأمريكية، وفكرة أن الولايات المتحدة أخلاقية على نحو فريد، وتعمل دائماً من أجل الصالح العام للإنسانية. لكن بالنسبة إلى الواقعيين، فإن الحاجة إلى البقاء، على نحو آمن ومستقل، في عالم يفتقر إلى سلطة مركزية، غالباً ما تقود الدول ذات الخصائص المختلفة إلى التصرف بطرق متشابهة على نحو لافت للنظر.
ان الاختلافات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، فيما يتعلق بالنظام السياسي والاقتصادي والأيديولوجيات، لم تمنع الدولتين من تبني سياسات خارجية متشابهة؛ حيث دفعت المنافسة خلال الحرب الباردة كلاً منهما إلى تشكيل وقيادة تحالفات كبيرة، وبناء عشرات الآلاف من الأسلحة النووية، والتدخل في العديد من البلدان الأخرى، وشن حروب مدمرة بالوكالة، واغتيال القادة الأجانب.
ان الواقعية لا تسعى إلى حصد الشعبية؛ إذ يميل مؤيدوها إلى أن يكونوا على حق. ليس كل الوقت بالطبع؛ لأن السياسة الخارجية نشاط مُعقَّد ينتشر فيه عدم اليقين والنظريات المختلفة التي يمكن أن تساعد في توجيه صانعي السياسات. على سبيل المثال، فوجئ معظم الواقعيين بأن الناتو نجا وتوسَّع بعد الحرب الباردة، لكن الواقعيين كانوا محقين بشأن الاحتواء المزدوج في الخليج، والحرب في العراق، وقرار أوكرانيا “المشؤوم” بالتخلي عن ترسانتها النووية، والآثار المترتبة على صعود الصين، وحماقة بناء الدولة في أفغانستان، وهي مجرد أمثلة قليلة. ان هذه الأمثلة ستجعل الواقعية أكثر شعبيةً، حتى لو استمرت معظم الدول في التصرف – بطريقة أو بأخرى – كما تتصوَّر الواقعية.
أحد رواد المدرسة الواقعية وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد