
أقرأ حاليا كتابا ثانيا لريتشارد ماكريغور أحد أبرز المختصين في الصحافة الغربية بشؤون شرق آسيا وخصوصا الصين وله كتاب عن الصين سبق أن توقفتُ عنده في مقال لي مؤخرا وهو كتاب تحت عنوان: “الحزب- العالم السري لحكّام الصين الشيوعيين” في مناسبة الحديث عن الحركة الشبابية الاحتجاجية ضد السلطة الصينية على جزيرة هونغ كونغ الآخذة تحت ضغط بكين بفقدان وضعيتها الخاصة التي منحها إياها اتفاق الانسحاب البريطاني منها عام 1997 على أساس قاعدة “سيادة واحدة للدولة الصينية ونظامان مختلفان للحكم”، وهذا الضغط بات يهدد بانهيار هونغ كونغ كمركز مالي و خدماتي عالمي عبر ضرب سلطات بكين للديناميكية الديموقراطية في الجزيرة.
ومن هنا أقمتُ بعض المقارنة، من حيث النتيجة، مع الانهيار اللبناني.اليوم أقف عند كتاب آخر لهذا الصحافي الأسترالي صادر عام 2017 تحت عنوان: ASIA’S RECKONING- The Struggle For Global Dominance – Penguin Book وفي ذهني الحصول على مادة تفيد أو تصلح لمقارنة ومقاربة المفاوضات القائمة بين لبنان وإسرائيل حول الحدود البحرية بما تعنيه من تفاوض على الثروة الغازية.
فور أن قرأت الفصل العاشر وعنوانه “مافيا آمبو” (مصطلح مافيا يبدو هنا تسمية سياسية بمعنى النفوذ وليس بمعنى الفساد) أنتبهتُ إلى ضرورة عرض تجربة التفاوض على الحدود المائية في بحر الصين الشرقي الفاصل بين الصين واليابان على الثروة النفطية والغازية فيه علّ هذه التجربة تفيد في كيفية تحقيق المصالح اللبنانية حتى لو كانت تقبع في بيروت مافيات فساد سياسية عديدة لا نعرف كم هي معنية بالمصالح ذات الطابع الوطني.
الذي نعرفه طبعا أن هناك نخبة بيروقراطية وعسكرية لبنانية مهمومة ووطنية في الجيش و الإدارة تسعى للقيام بدور ما إنقاذي إذا تمكنت من السير بين بيض المافيات السياسية اللبنانية وضغوطاتها الفئوية والمرتهنة، من جهة، وبين خطط إسرائيل كدولة متقدمة وطامعة باستثمار ضعف لبنان الذي أصبح “ضاحية فقيرة” في شمالها، من جهة أخرى.
ورغم أن تسليم ضابط كبير من الجيش اللبناني مهمة التفاوض يبدو في سلوك بعض القوى السياسية نوعا من الهروب من المسؤولية السياسية لتمويه طبيعة التفاوض، فالأمر الإيجابي جدا هو أن استلام الجيش اللبناني يعزّز من الثقة المعنوية بالمؤسسة العسكرية في وقت لا ثقة فيه بالمطلق بالطبقة السياسية وهناك حاجة على المستوى الوطني اللبناني لوجود مؤسسة كالجيش تحافظ على الاحترام الشعبي لها، ناهيك طبعا أن الجيش اللبناني يضم بعضاً من المختصين الأكفّاء بموضوع الحدود البحرية صدرت فيهم شهادات تقدير دولية.في عرض ماكريغور ما يصلح للمقارنة وما لا يصلح.نبدأ بالاختلافات وهي أولا في اسم الفصل.
إذْ أن التسمية ” مافيا آمبو” هي حسب ما يقول الكاتب الاسم المتعارف عليه في اليابان للبيروقراطية القوية التي تدير الدولة اليابانية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية والمعتبَرة مدافعة عن وحارسة للعلاقات الأميركية اليابانية التقليدية واستطرادا الممثلة للنزعة الوطنية اليابانية التي تتحفظ على أي تحسين نوعي للعلاقات مع الصين تبعا لما في تاريخ البلدين من ذكريات عداء مؤلمة مع أن الجانب الصيني هو الذي يحمل المرارة الشديدة بسبب ممارسات الاحتلال الياباني السابق للصين.
رغم ذلك ورغم عدم وجود علاقات ديبلوماسية بينهما في الخمسينات من القرن العشرين كان الجانبان الصيني والياباني يجتمعان لتنظيم التعاون على استثمار الثروة السمكية في بحر شرقي الصين. ولكن عندما تبيّن وجود الثروات النفطية والغازية أخذ الخلاف بالظهور ولاسيما بعد بلورة الأمم المتحدة في نهاية الستينات من القرن نفسه لاتفاقية تنظيم توزيع الموارد البحرية وإخضاع جزرسنكاكو \دييايو ( الإسم الأول للجزر ياباني، الثاني صيني)المختلف عليها بين الصين واليابان للتدقيق.
ومع ازدياد حاجة البلدين للنفط والغاز في التسعينات صار التفاوض ضرورة وقد تأخر حتى بدأ العام 2004، وكما يقول الكاتب ” تحت رقابة شديدة من العسكريين في بكين وطوكيو وليس فقط من السياسيين ذوي النزعة الوطنية على الجهتين”. يمكننا هنا أن نغيّر التسميات: فبدلا من البيروقراطية العسكرية هناك “حزب الله” عين إيران المباشرة الساهرة على هذا الجزء من ساحل البحر الأبيض المتوسط في حالة المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية، أما على الجهة الإسرائيلية فلن تختلف التسمية كثيرا بوجود الدولة العبرية كلاعب وحيد في التفاوض في تمثيل المصالح الإسرائيلية وبوجود الجيش الإسرائيلي صاحب النفوذ التقليدي العميق في هذه الدولةالعبرية.
تبقى ملاحظة اختلافية أخرى أساسية هي أن الولايات المتحدة الأميركية هي فريق مباشر في حضور ورعاية التفاوض المباشر بين لبنان وإسرائيل وصاحبة مصلحة في إنجاحها بينما لم تكن واشنطن حاضرة مباشرة في مفاوضات الصين اليابان والأهم كما يظهر من السياق الذي يؤكده ماكغروغر لم تكن صاحبة مصلحة في نجاح التفاوض وتحوله إلى عامل في تعزيز تقارب تاريخي بين طوكيو وبكين سيتطور مع محاولة رئيس الوزراء الياباني (الأسبق)يوكيو هاتوياما تطوير علاقة على مستوى آسيوي مع الصين بدت لواشنطن باعتبارها خروجا خطِراً لليابان من تقاليد أولوية التحالف معها بما فيها التحالف العسكري.
وحسب الكاتب بلغ الأمر حد مطالبة اليابان نقل مواقع الجيش الأميركي القائمة في بعض جزر اليابان ( منطقة أوكيناوا في أقصى جنوب الأرخبيل الياباني) وعلى المستوى الاقتصادي اقتراح هاتوياما إنشاء صندوق نقد لمنطقة آسيا نظر إليه الأميركيون على أنه إضعاف لصندوق النقد الدولي الذي يملكون الكلمة الفصل فيه.
نعود إلى المفاوضات البحرية التي ستبدأ متوترة عام 2004 بعدما وصف مسؤول صيني آلات الحفر في المياه العميقة في بحر شرقي الصين بأنها ” أراضينا الوطنية المتحركة وسلاحنا الاستراتيجي” بينما سيرفع وزير ياباني قبل ذلك في أحد الاجتماعات كوبا بيده إلى الأعلى ويؤشر ب “شلمون” (حسب تعبير في اللهجة العاميّة اللبنانية والشامية عموماً ولم أجد نظيره في اللغة العربية الفصحى) أدخله إلى الكوب أن كل كمية غاز أو نفط يشفطها الجانب الصيني عند حدود الخط الأوسط من البحر بين البلدين تذهب من داخل المنطقةالمحسوبة من حصة اليابان.يريد كل طرف مئتي ميل بحري من البحر بينما اتساعه بينهما لا يتجاوز 360 ميلا بحريا.
أخيرا، بعد أربع سنوات أي عام 2008 أُعلِن عن اتفاق بعد مفاوضات قادها عن الطرف الصيني الديبلوماسي البارز وصهر الزعيم الصيني الراحل شو إن لاي أحد أبرز رفاق ماوتسي تونغ، قادها السفير السابق لدى اليابان وانغ يي الذي سيصبح لاحقا عام 2013 وزيرا للخارجية في بكين.
كان اتفاقا غامضا رغم إعلان النقطة الأساسية فيه وهي شراكة الشركات اليابانية والصينية في استثمار حقول بحرية كان الصينيون يستثمرونها أصلاً. يبدو أن الاتفاق السري الأساس كان قسمة بحر شرق الصين بالمناصفة.
لم يصدر عن الجانب الصيني أي اعتراف علني بذلك خوفا من اتهامه بالمساومة على السيادة الصينية بينما في اليابان كان البند المعلن من الاتفاق، وهو مشاركة الشركات اليابانية في استثمار حقول نفط وغاز كان الصينيون هم من باشر بها قبل الاتفاق، كان هذا البند موضع نقد في اليابان باعتباره تنازلا سياديا لصالح الصين، وهذا حسب الكاتب، ما استثمرته “مافيا آمبو” لإضعاف مصداقية رئيس الوزراء الياباني والاتفاق عموما.
لن يعيش الاتفاق طويلا لأن الجانب الصيني بعد بضعة أشهر عاود العمل في الحقول البحرية التي كان يعمل بها وحده قبل الاتفاق.لن يكون بإمكان أحد تصور اتفاق لبناني إسرائيلي على استثمار مشترك للحقول البحرية المختلف عليها على غرار الاتفاق الصيني الياباني. هذا غير مطروح بل مستحيل.
لكن الدرس الأساسي من تجربة بحر الصين هو ضرورة عدم إخراج اتفاق غامض. ولدى اللبنانيين من ذكريات غموض اتفاق 17 أيار الأمني ما يكفي لحثهم على الوصول إلى اتفاق واضح، خصوصا أن الجانب الإسرائيلي المتماسك والقوي والمدعوم أميركيًا هو أقدر على استثمار الغموض. وأظن هذا ما يعيه المفاوض اللبناني الذي له مصلحة في تحديد خطِّ قسمةٍ واضحٍ جدا مع إسرائيل يمنع الأخيرة لاحقا من مد يدها أو “شلمونها” الشافط إلى حصة الثروة الغازية اللبنانية.
الاتفاق الغامض سيكون مقتلا للمصالح اللبنانية، أما الواضح أيا كان ضمن الحد المعترف به للبنان انطلاقا من “خط هوف” فهو ضمانة للانتقال اللبناني إلى الاستثمار.
“النهار”اللبنانية