
مشهد من الفيلم
يعيد فيلم ” البابوان” طرح قضية صلة الدين بالأخلاق أو صلة الدين بالالتزام الإنساني من افتراض علاقة جدلية بل جدالية بين البابا السابق بنديكتوس والبابا الحالي الحالي فرنسيس. يجري ذلك داخل أسوار الفاتيكان المحكمة الإغلاق وفي القصر الصيفي لإقامة البابا.
بنديكتوس الذي يلعب الممثل أنطواني هوبكينز دورَه، وفرنسيس الذي يؤديه جوناثان برايس يلتقيان بعد شبه منافسة غير متعمدة على البابوية. الحوار الذي يبدأ حذراً والمهووس بأوضاع الكنيسة وتراجعها سيمر وينتهي بقضايا كبيرة أهمها ماضي البابا فرنسيس أو الكاردينال برغوغليو في الأرجنتين أيام الديكتاتورية العسكرية وانتهاكاتها الفظيعة لضبط المجتمع الأرجنتيني بينما كان برغوغليو أسقف العاصمة بيونس آيريس ورئيس اليسوعيين هناك . هنا يتحول الحوار إلى كرسي اعتراف من الأسقف برغوغليو ومدى مسؤوليته عن الصمت على فقدان ومقتل أصدقاء بينهم رجال دين في الكنيسة.
هذا الفيلم برأيي ليس فيلم الكنيسة بل فيلم كل مؤسسة دينية إلى أي دين انتمت. فالمؤسسة الدينية، كل مؤسسة، قادرة “مهنيا” على وضع الله في الجانب الذي تريد من أي صراع : السلطة، الناس، المضطهِدون، المضطهَدون، الأغنياء الفقراء، الدينيون العلمانيون. فما يعالجه هذا الفيلم بالذات من خلال شخصيتين هما على أعلى قمة إحدى السلطات الدينية الأكثر نفوذا وانتشاراً في العالم، هو موقع رجل الدين الأخلاقي.
هل يجوز لنا في هذه الحالة أن نفصل بين الدين ورجل الدين؟
يجب أن نفصل. وهذا ما يفعله الفيلم، لذلك هو عمليا وبسيناريو مشوِّق، كرسي اعتراف “انتهاك” رجل الدين لواجباته الدينية، إذا لم أقل للدين نفسه.
عندما يتهم بابا الفاتيكان نفسه بالتقصير بل بما هو أكثر من ذلك، فلا قلنسوة مسيحية أو عمامة مسلمة أو كيبا يهودية خارج النقد.
لا يخلو الفيلم من دعابات نقدية كالإشارة إلى التهمة التقليدية الشائعة عن اليسوعيين وهي تهمة الخبث، لكن أيضا “تهمة” الذكاء!
■ يسأل الرجل المؤمن رجلَ الدين:
■ هل يجوز التدخين خلال الصلاة؟
يروي البابا فرنسيس للبابا بنديكتوس بما معناه أن الإجابة ستتوقف على صيغة طرح السؤال نفسه. فماذا لو سأل:
– هل تجوز الصلاة خلال التدخين؟
عادةً تتقن شركات استطلاع الرأي هذا النوع من التدوير للأسئلة. لكن “القاعدة” يونيفرسالية. فالتعريف الأساسي لوظيفة رجل الدين هو أنها معنية بتحديد ما هو حلال وحرام. جائز وغير جائز. ماذا لو كان هو موضوعَها؟
لا شك أن الفيلم، والكتاب الذي استند إليه، يخرجان بتأثير الزمن الراهن الذي بلغ فيه النقد الأخلاقي لدور رجل الدين الذروةَ في أوروبا والغرب. فالفضائح الجنسية، التي لم يغب الحوار في الفيلم عن ذكرها جعلت الكنيسة الكاثوليكية وبعضَ غيرِها من الكنائس تعاني أزمة مصداقية، كان اختيار البابا فرنسيس إحدى وسائل معالجتها أو معالجة تداعياتها بسبب آرائه الليبرالية.
أعود إلى الأخلاق و الدين. ولا يمكن تلافي هذه العودة في عالمنا الممتلئ بأصوليات دينية ملأت حياتنا العامة وأحيانا صدّعتها إن لم تكن دمّرتها.
وسأذهب أبعد من الفيلم بالسؤال: هذه المهنة التي تسمّى “رجل الدين” ماذا نفعل بها؟ كيف نحد من تأثيراتها السلبية على المجتمعات بينما تبدو هذه المجتمعات في ذروة الحاجة لها بسبب الفراغات العميقة في ما نسمّيه دون معرفة دائما بمعنى التسمية: الحياة الروحية.
تَناقَشَ البابوان طويلاً في دور الله وهما، الأول الألماني ثم الثاني الأرجنتيني مؤمنان عميقا بالله وشعورهما بالذنب نابع أساسا من شعورهما بأنهما لم يستمعا لكلمته.
سأتخيّل قاعةَ عرض أفلام مليئة فقط بالعمائم المسلمة والقلنسوات المسيحية تشاهد هذا الفيلم لأن ماهو مهمٌ فيه هو هذه النظرة الذاتية النقدية التي يجب أن تحرِّك صخرَ التحجُّر المؤسساتي لدى من يبدون. أحياناً وكأنهم يحتجزون الله في مخابئهم.
“النهار”اللبنانية