aren

“ضريح الآلهة”\\ بقلم : د.جورج نادر
الأربعاء - 13 - مايو - 2020

لعلّ من بين أكثر النظريّات العلميّة الّتي عرفتها إثارةً، هي تلك النظريّة القائلة بوجود منطقةٍ دماغيّةٍ عند الإنسان ، تحمل اسماً فلسفيّاً غايةً في الرّوعة : “ضريح الآلهة”.

لا أريد التوسّع في الحديث عن هذا المفهوم، لكن لمن ينتابه الفضول، سبق لي وأن أشرت إليه في مقالةٍ قديمةٍ حملت عنوان “الإدراك الحسّي الفائق”. وباختصارٍ شديد، أقول : إنّ هذه المنطقة، والّتي هي منطقةٌ فيزيولوجيّةٌ ، أكثر من كونها تشريحيّةً، كانت رئيسيّةً في المراحل البدئيّة للتطوّر، ومن ثمّ تراجعت تدريجيّاً ، حتّى باتت منطقةً ضئيلةً كامنةً في عمق الدّماغ الأيمن لإنسان اليوم.

بالطّبع تنطوي هذه النظريّة على أبعادٍ غايةً في الإثارة، لكنّني لست بوارد الخوض فيها الآن، فلكلّ مقامٍ مقال، لكنّني أوردتّها هنا ، لغرضٍ سيتّضح من خلال السّياق.

حقيقةٌ علميّةٌ أخرى، ربّما لا تقلّ عن سابقتها إثارةً، تنصّ على أنّ خلايا الجسم البشري تتجدّد بالكامل، باستثناء الخلايا الدماغيّة (أو معظمها، لأنّ أبحاثاً حديثةً نسبيّاً اكتشفت قابليّة خلايا بعض الأجزاء الدماغيّة للتجدّد) ، وذلك خلال مدّةٍ تتفاوت بين أيّامٍ حتّى أسابيع أو أشهر أو حتّى سنوات.

من هنا استُوحيت المقولة القائلة : بانّ الإنسان بعد سبع سنواتٍ ، هو إنسانٌ جديدٌ كليّاً.

لا تجزم المقولة ، بأنّه سيغدو أفضل أو أسوأ؛ هو فقط جديد.

ولا تنتقص من دقّة هذه المقولة ، حقيقة أنّ معظم الخلايا الدماغيّة لا تتجدّد؛ بكلّ تأكيدٍ يطرأ عليها تغيّرٌ ما، حتّى لو افترضناه تغيّراً مجازيّاً؛ بآليّة التّفكير أو بمقاربة المسائل الفكريّة مثلاً.

على أيّ حال، ربّما تعوز الدقّة فقط المدّة المحدّدة في المقولة تلك؛ بمعنى أنّ المدّة قد تتفاوت صعوداً ، أو هبوطاً قليلاً.

كلّ إنسانٍ على الإطلاق يقبع في داخله ، ذاك الإله الصّغير (أو فلنسمّيه اسماً آخر؛ لئلّا أثير تحفّظ البعض، فلنقل أنّه يكافئ نسخةً ما من نسخ الأنا الموصوفة في علم النّفس) ، والّذي يدأب بين الفينة والأخرى على إشعاره بأنّه مركز الكون؛ الكون بأسره يشتغل لأجله، أو الكون بأسره يتآمر ضدّه، أو أنّ حركة الكون ستضطّرب بكلمةٍ أو إشارةٍ منه.

قلت أنّ هذا (الإله) ، أو الأنا الخاصّ ، متواجدٌ عند كلّ إنسان، لكنّه بالطّبع يتفاوت كثيراً من حيث الحجم، فقد يكون ضئيلاً يكاد ينقرض، وقد يكون متضخّماً يكاد يستحوذ على كامل الحجم ويسحق المكوّنات العقليّة الأخرى. كما أنّ مفهوم الكون الوارد أعلاه يتفاوت بشدّة؛ فقد يكون صغيراً لا يتجاوز الحيّ أو حتّى الأسرة، وقد يتمدّد ليصل إلى المجرّات الأخرى.

عندما دخلت هذا الفضاء الافتراضيّ للمرّة الأولى، وعلى امتداد سنواتٍ تاليةٍ ، هي عمر مراهقتي الافتراضيّة تلك، تحرّك ذاك الإله القابع لديّ، شأني شأن كثرٍ آخرين. كيف لا، وقد عثرت أخيراً على “هايد بارك” مدهشةٍ، بعد أن أمضيت سنواتٍ طويلةً أتابع بانبهارٍ ممتزجٍ بالحسرة ، تجارب الآخرين من “الهايد بارك”، دون أن أكون قادراً على المشاركة بما يشبهها؟!

صرت أتنقّل من “هايد بارك” لأخرى، وأنا أصرخ ملء حنجرتي بأنّ هذا يمثّلني، وذاك لا يمثّلني، وبأنّني أقبل بهذا ، ولا أقبل بذاك، ومن هذا القبيل.

انتهت سنوات المراهقة تلك، وأدركت أنّ “كلام الفيسبوك” ، مثله مثل “كلام الجرايد”، أو ربّما أقلّ من حيث التّأثير. ولست أعني هنا تأثيره (المتبادل) بين النّاس، بل تأثيره على من بيده الأمر والسّلطة.

لا الصّحافة سلطةٌ رابعة، ولا الفضاء الافتراضي سلطةٌ خامسة، ولن يكونا أبداً كذلك.

حتّى “بوب وودوارد”، الّذي اشتُهر بكونه من فجّر فضيحة “ووتر غيت” ، الّتي أفضت إلى الإطاحة بنيكسون، كان مجرّد ساعي بريد، أعني أنّ من أراد الإطاحة بنيكسون ، هو من زوّده بأدلّة التنصّت تلك.

لست أعني بكلامي هنا ، أنّني أقلّل من شأن الكلمة، بل على النّقيض من ذلك، أنا شخصيّاً شديد التّفاعل مع الكلمة ؛ الكلمة قد تطربني أو تشجيني، تفرحني أو تحزنني، تهدّئ من روعي أو تغضبني، لكنّها ليست كذلك بالنّسبة للسّلطة؛ أيّ سلطةٍ كانت، بمعزلٍ عن الجغرافيا.

منذ أن انقضت سنوات المراهقة الافتراضيّة تلك، والّتي لربّما تزامنت مع كوني بتّ إنساناً جديداً- بحسب المقولة الواردة أعلاه، فقدتّ شغفي القديم ب”الهايد بارك”، ولم تعد المسائل المشابهة تثير أدنى شهيّةٍ لديّ للتّعليق. فليقل ذو المربّعات والدّوائر ما يقوله، وليردّ عليه من يشاء، وليثني عليه من يشاء. لن تتأثّر حركة الكون بالمطلق.

أساساً، لولا أنّ القيّمين على هذا الفضاء الافتراضي يدركون عبثيّته، لما عيّنوا تلك الجاهلة، المتخلّفة، الغبيّة والبذيئة، بموقع الإشراف على المحتويات الّتي تُنشر.

إنّ مجرّد فكرة أن أتلقّى رسالةً فحواها: لقد تمّ حجب منشورك لأنّ (توكّل خانم) قد اعترضت، تجعل القشعريرة ، تدبّ في أوصالي.

يا للهول…

هامش : عزيزتي “الفيمينيست”: عندما تكتبين بأنّك أحببته من دون النّظر لعمره أو ثقافته أو أفكاره أو انتمائه أو…أو… ، وإنّما لأنّه أحبّكِ واحترمكِ، فهذا يعني أنّك وقعتِ في غرام حالة الحبّ نفسها، لا الحبيب، وهذا تعالٍ غير مبرّر، بل يمكن القول بأنّها لم تعد “فيمينيزم”، وإنّما معاداةً للذّكور.

وإذا لم تقصدي هذا فعلاً، تكون المصيبة أكبر. فإذا جرّدتيه من كلّ هذه الصّفات، ما الّذي يبقى منه؟ لا شيء غير جنسه. في هذه الحالة أنت تقولين بلغتك “السّينييه” ما معناه بالعاميّة: «الرّجال بالبيت رحمة، حتّى لو كان فحمة» …

هامشٌ ثانٍ: لست ملمّاً على الإطلاق بتواريخ الأعياد على اختلافها، وبالكاد أحفظ تاريخ ميلادي مع بضعة تواريخ أخرى لا أكثر، لكنّني علمت بالصّدفة أنّ اليوم هو يوم التّمريض العالمي. وحيث أنّني أكنّ كلّ الاحترام والحبّ للطّاقم التّمريضي، ذكوراً وإناثاً، وحيث أنّني أعلم يقيناً أنّهم يعملون في الظلّ غالباً، ويتعرّضون للظّلم في كثيرٍمن الأحيان، أجدها مناسبةً لمعايدتهم ومعايدتهنّ جميعاً… كلّ المحبّة والاحترام…

وبالمناسبة، سأروي طرفةً: تتضمّن التّعليمات الّتي يتمّ توجيهها للممرّضة المستجدّة، على سبيل الدّعابة طبعاً، من بين ما تتضمّنه: وتذكّري ألّا تقتلي المريض… فهذا عمل الطّبيب…

هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها