وحدها المدن العتيقة الثلاث؛ دمشق وبغداد والقاهرة، ما تزال فيها هذه الصناديق الحديديّة مُعلَّقة في الشوارع. الجيل الجديد لا يعرف سبب وجودها أصلاً، وقد يعدّها شيئاً من التراث القديم. في الغرب لا تزال موجودة أيضاً وفعالة ولكنها فقدت كل وظيفة كانت مخصصة لها في عالمنا العربي، رسمية كانت ام عائلية أو عاطفية.

منذ قرابة خمس عشرة سنة، سألت مجموعة من الطلّاب: “مَن منكم وضع رسالة خطّيّة في حياته؟”
نظروا إليّ باستغراب شديد، فقلت لهم: “كان علينا نحن أبناء ذلك الجيل أن نقوم بتبييض المكتوب قبل وضعه في مغلّف أبيض مخطّط بالأزرق والأحمر، ومن ثَمَّ لعق المُغلَّف لإغلاقه، ثمّ شراء الطوابع، وإيداع الرسالة في صندوق البريد”.
ضحك الطلبة من مداخلتي، وكأنّها قادمة من كوكب آخر، وقالوا: “ولِمَ كلّ هذا الشقاء؟ لو أردنا مخاطبة أحد، فسوف نُرسل له (إيميل).” كان ذلك طبعاً قبل ظهور (الواتساب والمسنجر).
حاولت أن أنقل لهم السعادة العارمة التي كنّا نشعر بها عندما كان يصلنا جواب خطّيّ من وراء البحار، انتظرناه أسابيع أو أشهراً، حدّثتهم عن تحدّيات فكّ الخطّ، وعن رائحة الورق القادم من بعيد يخبرنا عن مزاج المُرسِل من خطّه.
كانت عمليّة مُكلِفة طبعاً، تستغرق وقتاً وجهداً، وكثيراً من الأعصاب، ولكنّ فيها كلمة واحدة لم تعد موجودة في وسائل التواصل الاجتماعيّ الحديثة، ألا وهي: الروح.
نعم… كان في تلك الرسائل روح، وشيء من أنفاس أصحابها. غابت تلك الرسائل الخطّيّة، وبقي صندوق البريد العتيق مُعلَّقاً في شوارعنا، شاهداً يتيماً على عصر قديم، كانت فيه فرحة الأشياء الصغيرة فرحة عارمة.