لا أعرف بالضبط ما الذي يجعلني أفكِّر بمهندسي المرحلة القوطية في أوروبا القرون الوسطى المسيحية و مهندسي المرحلة العثمانية الإسلامية حين أتذكّر المهندس المعماري العراقي الكبير رفعة الجادرجي. ويزداد تعجبي من هذا الربط أن القوطيين والعثمانيين كانوا مهندسين مؤمنين بنوا :… هؤلاء كنائس عملاقة و…أولئك مساجد ضخمة بينما رفعة الجادرجي لم يكن دينيا بالمطلق. ولم يترك ولم يرغب أصلاً في ترك أي أثر معماري ديني. لعله هنا السبب : دينية شديدة تقابلها لادينية أشد. هنا لا أقارن بل أفكّر. كيف للاديني أن يكون متأثراً إلى هذا الحد بالهندسة التراثية للمنطقة ؟ أفترض أنني لو سألت رفعة الجادرجي هذا السؤال لقال: الجواب حضاري لاديني.
لم يكن رفعة الجادرجي الذي فارق الحياة في لندن قبل فترة قصيرة، مجرد مهندس كبير طبع بغداد الحديثة أو ما بقي منها بإنشاءات عامة وخاصة بارزة بل كان أساسا مفكرا معماريا. هذا المفكر المعماري الكبير كما يكشف كتابه الرائع ” الأخيضر والقصرالبلوري- نشوء النظرية الجدلية في العمارة”. (دار رياض الريس للكتب والنشر- 1991).
ما بوسعي أن أتحدث عنه بل أن أنقل عنه ليس ذلك الكتاب، بسبب ما يعوزني من غياب الاختصاص مع أن الكتاب نفسه مساهمة ضخمة وممتعة شخصية وفنية واجتماعية وتراثية ومعاصرة لمهندس معمار ونظرته إلى تجربته كما إلى الإرث المعماري العراقي التاريخي والمدارس المعمارية العالمية الحديثة بشغف الفنان وعقلانية المفكر. الذي سأتحدث عنه هو كتابه وزوجته بلقيس شرارة الذي يروي، هو داخل السجن وهي من خارجه في صلتها مع السجن تجربة عنوانها: جدار بين ظلمتين.(دار الساقي2003).
هذا الكتاب يشكل شهادة عن بعض عهد صدام حسين الرهيب ويصلح ليكون مادة فيلم سينمائي كبير. وكما قلت سابقًا وليس جزافاً سأنقل عنه بعض فقرات قصيرة من شأنها أن تقدِّم عينات عن تلك التجربة الرهيبة في معتقلات صدام والتي امتدت عشرين شهرا.
يروي رفعت في الفصل الثاني الصفحة 107:
” في زنزانة رقم 26
لا تعدو سعة الزنزانة رقم (٢٦) أكثر من متر وسبعين سنتيمتراً عرضاً، ومترين طولاً. نشعر بثقل الهواء بسبب حشر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق. لا مجال لحركة الهواء النقي فيها فيدور الهواء كما لو أننا داخل فنجان، لأن الزنزانة مغلقة بباب حديدي لا منفذ للهواء من أسفله، ولا فتحة في أعلاه، سوى شق صغير لمراقبتنا من قبل الحراس…. لذا تمتزج رطوبة أنفاسنا بهواء الزنزانة الفاسد.
” كنا خمسة أشخاص في الزنزانة صباح اليوم التالي. لا يستطيع أحد تحريك جسمه إلا بما يؤمن القليل من راحة العضلات لكي لا تتشنج وتتعطل عن الحركة كليًا. وحتى تلك الحركة الجزئية لا تتم من غير أن يحتك بدنٌ ببدنٍ آخر… أخذت أتدرب على حلول مناسبة وعملية في تجنّب تماس بدني مع الآخرين، وأمارس ذلك، فانتظمتُ وسط أسلوب جديد الرقاد…فكنت أتمدد بكامل طولي موازياً للجدار وملتصقاً به في فترات نوم الليل…
وفي الصفحة 113:
“… البيجامة التي تسلمتها كانت وسخة جداً ذات رائحة نتنة، يمتزج بها عرق المعتقلين الآخرين وروائحهم، مع زناخة خانقة كما كانت مبقعة بالدم المائل إلى السواد، وامتزجت بروائح متنوعة من الصنان، والإفراز المنَوي اليابس لشخص أو أشخاص متعددين…”
لا أستسيغ أن أتابع نقل شهادة رفعة الجادرجي عن الحمامات القذرة وأهوالها على سجناء يعيشون معها ويستخدمونها. مراراً ما كنتُ أوقف القراءة وأضع الكتاب جانبًا لا قرفًا فقط بل خوفاً من الاتساخ، لأن الجادرجي يبرع في وصف معاناة مستحيلة وتتجاوز الشرط الإنساني للقدرة على التحمل. لم يحصل معي هذا التخلّي عن الكتاب الذي أقرأ إلا، على ما أذكر، في رواية الطاعون لألبير كامو التي كدت خلال قراءتها أخشى انتقال عدوى الوباء إلى أصابعي التي تحمل الكتاب فوضعته جانبا بسبب الدقة المؤثِّرة والمخيفة للوصف الذي ينقله.
لهذا فإن شهادة رفعة الجادرجي ترقى إلى مصاف الأعمال الكبيرة في الأدب أو السياسة. والكتاب بمساهمتيهِ من بلقيس ورفعة عملٌ فريد القوة والخصوصية. وعليّ أن أشير هنا إلى أن رفعة ما كان ليخرج من السجن لولا تعهّدُ صدّام له بذلك في حال أنجز بعض المشاريع الكبرى التي كانت الدولة العراقية تحتاجها. لذلك يحمل الكتاب مفارقة أن مدير المخابرات سعدون شاكر هو الذي أدخل رفعة السجن بينما الذي وفى بتعهده وأخرجه منه بل من كل العراق هو الجلاد الأكبر أي صدام حسين. وهذا يمنح الكتاب بعداً شكسبيرياً !.
كتاب “جدار بين ظلمتين” فيه وجهٌ خاص غير القمع العام، قمعٌ “خاص” للنخبة العراقية من شعراء ومثقفين ومهنيين مبدعين يذكّر أيضا ببعض روايات الكاتب الصيني مو يان الحائز جائزة نوبل عن اضطهاد ماوتسي يونغ للنخبة الثقافية الصينية خلال “الثورة الثقافية” ونفيها للقيام بأعمال شاقة في الأرياف البعيدة.
شاء الحظ العاثر أن يمر هذا المهندس الكبير في هذه التجربة وهو اليساري ابن العائلة البورجوازية البغدادية ونجل الشخصية العراقية المعروفة كامل الجادرجي أحد أقطاب الوطنية العراقية والوزير السابق في العهد الملكي والزعيم اليساري بالمعنى الذي كان عليه أكرم الحوراني في سوريا وكمال جنبلاط في لبنان… إذا شئنا المقارنة رغم الاختلافات في الخصوصيات.
لن “يستقيم” تاريخ القمع العربي المعاصر بعد اليوم من دون وضع شهادتَيْ رفعة الجادرجي وبلقيس شرارة في صلبه بل في مقدمته.
“النهار”اللبنانية