
العزيزة….
أعرف، وليس لا أعرف، الأسباب التي جعلتني أتوجّه إليك حتى لو أني لا أعرف أين أصبحتِ تقيمين وفي أي قارة. كل الشعوب “تأَرْمنت” عزيزتي وصارت الدياسبورا جزءاً أصيلاً منها. تعرفين أيضا، وأنت المثقفة والمهنية الناجحة أن مصطلح دياسبورا وُلِد من كلمة ذات أصل يوناني تصف التجربة اليهودية بتاريخيتها وأساطيرها، وقد كتبتُ في مراجعتي لتجربتي في الكتاب الذي أصدرته تحت عنوان ” المهنة الآثمة” أن كتابتي السياسية “تهوّدت” عندما صارت شعوبنا في الشرق الأوسط، ومنها اللبنانيون، شعوبَ هجرات كثيفة في القرنين العشرين والحادي والعشرين وصارت اهتماماتي تشمل كل أنواع الدياسبورات العربية ومنها الفلسطينية كما غير العربية.
أكتب لكِ اليوم لأن ذكريات حوارات سياسية غير مكتملة بيننا تحرّكني لمتابعتها لا فقط لوصل ما انقطع منها من خلاصات سياسية وفكرية بل الأصح لترميم ما انقطع من التباسات سياسية فيها.
هذه الأيام عادت الأجندا الأرمنية تداهم متابعاتي ليس فقط مع انفجار النزاع مرة أخرى بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم ناغورنو قره باخ الذي تعادل مساحته تقريباً مساحة سهل البقاع في لبنان بل أيضا، لأن السجال الأرمني التركي عاد يتجدّد في السنوات الأخيرة بأشكال ومناسبات مختلفة في العديد من البلدان. وقد قرأت مؤخرا مقالا قيِّماً على الموقع الإلكتروني لمجلة “أسواق العرب” بتوقيع السفير اللبناني السابق في أرمينيا جان معكرون يعرض بموضوعية لمحاولات حلول لنزاع نوغورنو كاراباخ، هذا النزاع الذي علينا أن ننتبه إلى أنه في أواخر الثمانينات من القرن المنصرم انطلق من سوء تفاهم موروث عن الاتحاد السوفياتي المتلاشي ولا يتصل مباشرةً بأحداث أوائل القرن العشرين. والآن هناك اتفاق وقف نار برعاية روسية أرجو أن يوفِّر ضحايا جُدُداً على الفريقين. وهو يُدخِل الوطنية الأرمنية في جدلٍ صعب مع نفسها من المهم أن لا يكون على حساب الاستقرار الديموقراطي داخل أرمينيا. وهذا جدل – الوطنية والديموقراطية – طالما اختبرناه في العالم العربي.
على أي حال لستُ هنا بصدد هذا الموضوع تحديدا بل بصدد مراجعة وجدتُ من المناسب توجيهها إليكِ في رسالة أتمنى أن تصلكِ لما أعرفه عنك من سعة أفق وثقافة سياسية لا تتعارضان بل تكمِّلان أصالة هويتك الأرمنية.
الأرجح أنك لا تعلمين أنني في العقدين ونصف العقد الماضية صار اهتمامي بالشؤون التركية أساسيًا في مساري المهني. وأصارحك القول أنني خلال معظم هذه المدة سيطرت عليّ فكرةُ أن النزاع الأرمني التركي الذي بدأ في نهاية القرن التاسع عشر وفي العقدين الأوّلين من القرن العشرين كان أقرب إلى حرب أهلية داخل حدود الدولة العثمانية مع بدء استيقاظ قوميات السلطنة ومجموعاتها الدينيّة في البلقان وآسيا، وأن العلاقة الأرمنية مع روسيا القيصرية ساهمت في إشعال التوتر التركي خصوصا عندما كانت تقع الحروب على الجبهات التي بلغت إحداها حد وصول القوات الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى “مشارف” العاصمة اسطنبول و استعدادها لاحتلال المدينة التي أصبحت ساقطة عسكريا لولا التدخل البريطاني الصارم الذي جعل القوات القيصرية تتراجع.
أكتب لكِ اليوم لأقول لك أنني لهذا السبب شكّكتُ طويلا بالرواية الأرمنية عن الصراع خصوصا في منطقة القوقاز الجبلية الوعرة والجميلة والتي لا زال ينتصب فيها جبل أرارات، الرمز المقدّس لدى الأرمن، شامخا داخل حدود الدولة التركية الحالية وعلى مسافة قليلة من مدينة يريفان العاصمة الأرمنية خلف الحدود.
لقد كان اهتمامي بتركيا المعاصرة مبعثه في الأساس اعتقادي الراسخ كمُسْلم معني بسؤال التقدم والتخلف أن مصير مستقبل علاقة الإسلام بالحداثة، في كل العالم المسلم سيتقرّر نجاحه أو فشله على ضوء نتائج التجربة التحديثية في تركيا وليس في أي مكان آخر من العالم المسلم المتخلّف تنموياً بشكل مريع (مع استثناء لماليزيا وإندونيسيا). كانت المحاولة التركية للتحديث السياسي والاقتصادي قطعت وتقطع شوطا كبيراً في محيط من دول مسلمة بغالبها ليست واعدةَ المستقبل.
مع الأسف تيقّنتُ اعتباراً من العام 2016 أن ولادة ديكتاتورية رجب طيب أردوغان وقيادته للمشروع الإخواني الأصولي في تركيا والمنطقة وجّهتا الضربة القاصمة لحلم ديموقراطية تركية بعدما قضى أردوغان على الصحافة والقضاء والنقابات وسيطر على اقتصاد جعله اقتصادا مافياويا وأخضع المؤسسة العسكرية وورطَّها في مغامرات خارجية ولَعِبَ باستقرار الدول المحيطة وبالأمن الأوروبي بطريقة ابتزازية.
عليّ أن أعترف أنني لم أكن على بيّنة كافية مما حدث للأرمن عامي 1915 و1916. ولكي أكون صريحا أكثر، وربما هذه من أخطاء الإعلام الأرمني الذي يركِّز على أحداث القوقاز وكيليكيا ولا يعطي الأهمية الكافية لما حدث من اضطهاد رهيب للسكان الأرمن في المتروبولات العثمانية الكبرى كاسطنبول وإزمير اللتين كانت تعيش فيهما نخبة أرمنية من أوسع وأرقى وأفعل نخب الأمبراطورية العثمانية المتعددة القوميات والأديان.
أكتب إليكِ أيتها الصديقة القديمة ولم نلتقِ منذ تسعينات القرن المنصرم لأقول لك أن أهم ما يُظهِر أن القرارَ التركي، قرارَ مجموعةِ الضباط الحاكمة آنذاك، كان قراراً اقْتلاعيا للأرمن هو أنه تخطّى جغرافيّاً أَحداثَ الاضطرابات في مدن وقرى القوقاز حيث كانت القوات الروسية تتقدّم، على هول هذه الأحداث المعروف والمثْبت، ليشمل كل وجود أرمني على أرض الأناضول وكيليكيا ومدنهما.
لكن يجب أن تعرفي أن الفضل في هذا التحول الذي طرأ على رؤيتي للموضوع هو لمثقفين أتراك شجعان وبصورة خاصة اثنين لا أعرفهما شخصياً هما الروائي أورهان باموك والروائية إليف شفاق، الأول بعد موقفه الشجاع بإدانة المجازر ضد الأرمن و الذي جعله يبتعد لفترة عن تركيا ويعود لاحقا ليكون تحت خطر التهديد الدائم بالاعتداء عليه والثانية في روايتها التوثيقية الرائعة: سِفاح (أو لقيطة) اسطنبول. كلا الكاتبين تحمّل وزرَ اضطهاد السلطة والقوميين المتشددين بعد مطالبته تركيا بالاعتذار عن المذابح( التي طالت مليون أرمني حسب حائز جائزة نوبل أورهان باموك).
أريد أن أضيف على ذلك شجاعة العديدين من الصحافيين والمثقفين الأتراك الذين طالبوا بتحمّل تركيا مسؤولية تلك الارتكابات وتعرضوا في معرض دفاعهم ضد الاستبداد الأردوغاني إلى سجن وتنكيل أو الفرار إلى منافٍ بعيدة، ولي بينهم بعض الأصدقاء. وقد أحدث اغتيال الصحافي الأرمني التركي الناشط هرانت دينك عام 2007 في مكتب الصحيفة التي يرأس تحريرها في اسطنبول صدمةً ساهمت في تفتيح الوعي الديموقراطي للمثقفين الأتراك على حقائق إضافية لهذا الصراع.
لا يعرف كثيرون في لبنان اليوم أن المنطقة الممتدة بين الجمّيزة حتى نهر بيروت كانت مناطق لمخيمات اللاجئين الأرمن البؤساء الهاربين من المأساة، كذلك على الجهة الثانية من النهر التي أصبحت تُعرف باسم برج حمود. على ضفتي النهر وفيها منطقة من بيروت، ومن ضمنها الكثافة السكانية الأرمنية، أصاب انفجارُ 4 آب الرهيب إصاباتٍ تدميريةً وقاتلةً لا بد أنكِ سمعتِ عنها ولكِ فيها طبعا أصدقاء وربما أقارب من أرمن حلب الذين تنتمين إليهم، كماأخبرتِني قديماً بحكم إقامة عائلتك في المدينة السورية التي استقبلت أوائل دفعات النازحين الأرمن من أرمينيا وشهدت مبكراً على مأساتهم. لقد سبق لي أن قرأتُ شهادة ضابط فرنسي كان في لبنان في عشرينات القرن المنصرم وكتب عن أوضاع تلك المخيمات كما أن كثيرين لا يعرفون في لبنان اليوم أن مخيم البص في مدخل مدينة صور والذي أصبح مخيماً للاجئين البؤساءالفلسطينيين أقيم في الأساس لاستقبال البؤساء الأرمن. ومنذ عام 1948 يبدو أن اللاجئين الفلسطينيين أخذوا يحلّون مكان الأرمن الذين لا زال عدد كبير منهم مسجلاً في سجلات نفوس مدينة صور.
لويس جالابرت الفرنسي عام 1934 يصدر كتابه بعد رحلة إلى سوريا ولبنان تحت عنوان: “سوريا ولبنان- نجاح فرنسي”، وقد عثرتُ على نسخة من الكتاب في إحدى مكتبات الحي اللاتيني القديمة حين كنتُ أمارس هوايتي (بل احترافي) المفضّلة حين تتاح لي فرصة زيارة باريس وهي التجول بين مكتبات الحي اللاتيني القديمة وخصوصا تلك المحيطة بمبنى جامعة السوربون وساحتها الشهيرة. بالمناسبة كان البائع، ولعله صاحب المكتبة، عجوزاً أرمنيًا ظريفا ولكنه لا يحب الانتقال كثيراً عن كرسيِّه فيترك الزبون للبحث وحيدا عما يريد من كتب يختلط فيها القديم بالجديد في نكهة للمكان تجعلك أقرب للزمن القديم الذي تبحث عن وقائعه غالباً المنسية.
في الصفحة 110 من كتابه ( منشورات LIBRAIRIE PLON ) يورد جالابرت الجدول التالي لتوزّع اللاجئين الأرمن في سوريا ولبنان (استناداً إلى تقرير القيادة العليا للقوات الفرنسية في الليفانت):
لبنان الكبير 32640
دمشق 10000
حلب 37400
ديرالزور 1200
اسكندرونة 6240
لست هنا لاستعادة كل هذا التاريخ وإنما، عطفاً على حوارات قديمة، لأعترف بالعديد من التحولات التي طرأت على رؤيتي للموضوع وإن كنتُ أكثر اقتناعاً اليوم بأن المسألة الطائفية في كل المنطقة بدأت تدحرجَها السلبي بعد الانهيار النهائي للأمبراطورية العثمانية أو هي ترافقت مع هذا الانهيار وكانت من الأثمان الغالية جدا التي دفعها مسيحيو الشرق عموما في الدول الناشئة حديثاً.
لكن هذا حديث يجرنا انطلاقا من المأساة الأرمنية إلى قراءة أشمل لتاريخ المنطقة.
أخيرا أحب أن أخبركِ أن التجربة الطويلة لأرمن لبنان تزداد إثارةً لإعجاب باقي اللبنانيين من كل الطوائف، و إلى قصص النجاح المهني للأرمن تُضاف نجاحات جديدة لهم كقوة اعتدال وعقلانية لا يجب أن يُسمح لأحد، كائناً من كان، أن يجازف بهذه السمعة وتوازناتها.
“النهار”اللبنانية