رحل “صالح علماني” في أسبانيا عن عمر يناهز السبعين عاما . المترجم ، الأكثر شهرة على مدى ما يزيد على عقدين.ومن يسترجع دخول مصطلح أدب (الواقعية السحرية)، لا بد له من أن يتذكر جهود علماني، الذي نقل روائع هذا الشكل الروائي الجديد، الذي اخترق به أدب أميركا اللاتينية ، دوائر الرواية الأوروبية ، بعد أن فقدت الأخيرة قدرتها على التقدم ، مسافة أبعد من التجديد والتطور.
ولد علماني في مدينة “حمص” السورية عام 1949، وحصل على إجازة في الأدب الأسباني، وعمل مترجما في سفارة كوبا بدمشق، وكان عضو جمعية الترجمة في اتحاد الكتاب العرب في سوريا. يعد علماني ، استمرارا (نادرا)، للمترجم «المشروع»، وهو ذاك الذي يأخذ على عاتقه ، نقل جانب متكامل من ثقافة أمة أخرى.
ترجم علماني لـ”إيزابيل الليندي – جوزيه ساراماغو – إدواردو غاليانو- خوان رولفو – إدواردو ميندوثا – ميغل أنخل أستورياس، إضافة إلى غارثيا ماركيز” ، وللاخير على الأخص ، رائعتاه «مئة عام من العزلة» ، و«الحب في زمن الكوليرا». وكانت آخر ترجماته ، قبل رحيله ، هي رواية «غراميات» للأسباني (خابيير مارياس).
التجدد الاخباري
في جلسة مقهى مع صديق له في أحد مساءات برشلونة الكاتالونية في سبعينيات القرن الماضي، بدأ كل شيء مع المترجم السوري ، الفلسطيني الاصل ، الراحل “صالح علماني”. كان الصديق ، يحمل رواية «مئة عام من العزلة» في طبعتها الأولى، وبمجرد أن أخذ الرواية من صديقه، وقرأها ، تكونت تلك العلاقة الخاصة مع أدب “غابرييل غارسيا ماركيز”، والتي عرفها القراء العرب من المحيط إلى الخليج في معظم ترجمات علماني.
انبهر علماني بأجواء الرواية وغرائبيتها ، فقرر أن يترجمها، وفعلاً ترجم منها فصلين ، ثم أهملها ، قائلاً عن ذلك: «عندما بدأت قراءتها، أصبت بصدمة، لغة عجائبية شدتني بعنف إلى صفحاتها، قررت أن أترجمها إلى العربية، وبالفعل ترجمت فصلين ثم أهملتها».
عودته إلى دمشق ، جعلته ينشغل بعدة أمور ، نسي في غمرتها الرواية العجائبية، لكنه ترك الباب مشرعاً ، ليعود في أية لحظة إليها، تلك العودة كانت فيما يبدو حتمية ، لأنه يمتلك ذهنية تعشق اللغة والحكاية، وتربت منذ طفولته الأولى على ذلك.
كان الطفل الذي ولد في شمال حمص السورية سنة 1949 لعائلة فلسطينية ، هربت من جحيم القذائف والرصاص والقنابل ، التي صبها الاحتلال على أصحاب الأرض الفلسطينيين – آنذاك- مولعاً بالحكاية منذ صغره، وبتجليات اللغة حين تنقلها، ربما لأن والده (عمر علماني)، كان «حكاءً بارعاً» ، رغم أنه رجل أمي لم يتعلم، وهو يصفه ويصف كيف زرع فيه حبه للغة ولإمكانياتها التعبيرية ، قائلاً: «في ليالي الشتاء كنا نتشاجر مع أطفال الأقارب والجيران حول أين سيسهر أبي، ذلك لأن الجميع لا يريد أن يفقد متعة الجلوس والاستماع إلى قصصه، وحكاياته وأحاديثه، ورغم أنه مجرد فلاح أمِي تعلم كتابة اسمه وهو في سن الـ87، إلا أنه كان حكاءً وراوية مذهلاً بفطرته، ربما لهذا تأثير في حبي للغة وإدراك إمكانات التعبير فيها، وربما جعلني ذلك شغوفاً بالقراءات بشكل مبكر جداً».
الصدفة التي جعلته يرتبط بماركيز ، هي نفسها التي جعلته يترك مهنة الطب ، التي ذهب أصلاً إلى برشلونة ليدرسها، ليتفرغ في ما بعد للترجمة، حيث بدأها بترجمة قصص قصيرة لماركيز بعد عودته إلى دمشق، ونشرت في بعض الصحف المحلية هناك، ثم كانت الضربة التي لفتت إليها انتباه النقاد ، هي ترجمته لرواية «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه» سنة 1979، حينذاك كتب عنه الناقد “حسام الخطيب”، مثنياً عليه ، واصفاً إياه بأنه «شاب فلسطيني يترجم أدباً مجهولاً إلى اللغة العربية».
حينها ، بدأ علماني يفكر في احتراف الترجمة بشكل كامل، بعد أن كان يفكر في كتابة الرواية، ولعل ذلك تجسيد لمقولته الشهيرة: «أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً»، كان عندئذ يدرك بشكل كامل أنه أخيراً ، وجد ذاته.
صدفة أخرى ، نقلته أكثر فأكثر في طريق التقدير والشهرة والتخصص في ترجمة الأدب اللاتيني، كانت عندما عثر الشاعر “محمود درويش”، والذي كان يعمل آنذاك محرراً في مجلة «شؤون فلسطينية» على نسخة من أشعار الإسباني «رافائيل البيرتي» ، بتوقيع مترجم غير معروف اسمه “صالح علماني”، فأعجب بها جداً، وقال درويش عنه: «هذا الرجل ثروة وطنية ينبغي تأميمها».
تتالت بعدها الترجمات ، التي أنجزها علماني، حيث ترجم للعديد من الكتاب اللاتينيين من أمثال : (ماركيز وإيزابيل الليندي، وماريو بارغاس يوسا، وجوزيه ساراماغو، وميغيل إنخل استورياس… وغيرهم) ، ولم يكتف بذلك ، بل أشرف على ورش عمل تطبيقية في الترجمة الأدبية في معهد “ثربانتس” في العاصمة السورية – دمشق.
ذلك المجهود الكبير ، الذي يعرفه آلاف القراء في العالم العربي، والذي جاء في حصيلة تناهز المئة كتاب، جعل من علماني ، أحد أهم من عرَفوا القراء العرب ، بتيار «الواقعية السحرية» الذي ظهر في أمريكا اللاتينية ، وكان أول من استخدمه الكوبي (أليخو كاربنتير) ، كما كان لترجمات علماني ، أثر كبير في إثراء الرواية العربية نفسها من خلال فتح الآفاق أمام كتابها من أجل الاطلاع على الأدب اللاتيني ، وسماته الفريدة ، وشخصياته الثرية وعوالمه المختلفة، وهو يقول عن ذلك: «حين جاءت حقبتا الستينيات والسبعينيات ظهر كتاب عرب مميزون، وهناك جيل جديد من الروائيين تعلم اللعبة وأتقنها، وإذا كان للترجمة فضل فهو جعل الكاتب العربي مواكباً للتطورات التي وصلت إليها الرواية العالمية حتى يكون متماشياً مع روح العصر»
ورغم إبداعه ولغته الخاصة التي تشد قارئه إلى ترجماته، فإنه يعتبر أن الترجمة مهما بلغت من إبداع ، ستُفقد النص الأصلي، بعضاً من سماته وقدراته السردية، ويعتبر أن أفضل ما يمكن أن يحققه المترجم المتميز في عمله ، هو أن: «يبذل أقصى جهده لنقل أكبر قدر ممكن من أفكار المؤلف وإيحاءاته وظلال معانيه»
نال علماني ، العديد من التكريمات في العالم العربي وخارجه، فقد منحه الرئيس الفلسطيني (محمود عباس)، وسام الثقافة والعلوم والفنون في عام 2014، وحصل على جائزة «خيراردو دي كريمونا» الدولية للترجمة عام 2015، ونال جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولية للترجمة عام 2016.
ربما برحيله ، ستحتاج الترجمة خصوصاً في المجال ، الذي تخصص وبرع فيه هو إلى فترة طويلة ، قبل أن تجد كاتباً آخر ، يعانق الصدفة مرة أخرى ، ليأتي بما لم يسبقه إليه أحد.