مشيت في شوارع مدينتي يوم أمس، بين حي (الشعلان) وشارع (أبو رمانة)، وأستطيع القول: بان دمشق قد استعادت القليل القليل من جمالها القديم، بعد منع النراجيل في المطاعم والمقاهي . الزحمة كانت أخف ، والجو كان أنظف بكثير بسبب تحرر الأحياء السكنية من رائحة الجمر. والمشهد العام ، كان ارقى لعدم تطاول المقاهي على الأرصفة العامة. ومن الملفت أن بعض اصحاب المتاجر قد صبوا الصابون على أبواب محلاتهم، (وقاية من الجراثيم) ، لتفوح رائحته وتمتزج مع رائحة الأزهار القادمة مع بداية فصل الربيع، بدلاً من رائحة الفحم ، أو البارود ، التي اعتدنا استنشاقها خلال السنوات العشرة الماضية.
طبعاً ، لا يمكننا إغفال الضرر الإقتصادي الكبير ، الذي سوف يلحق بأصحاب هذه المقاهي والمطاعم، حيث وجود الزبائن فيها اليوم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
ولكن … دعونا نتخيل لو استمر المنع ، هل تتغير عادة السوريين بالنسبة للنراجيل ؟ إنها عادة حديثة نسبياً ، عمرها لا يتجاوز الـ”خمسة عشر” عاما فقط، وقد تفشت وازدادت بشكل رهيب في سنوات الحرب الأخيرة. قبل ذلك ، كانت (النراجيل) لا تُقدم إلا في المقاهي حصراً (الشعبية منها والحديثة) ، وليس في المطاعم والمولات والأندية الليلية. وقبل ذلك بسنوات قليلة، كان الرجل السوري لا يحمل النرجيلة ، أو السيكارة في حضور من هو أكبر منه سناً أو مقاماً، وحكماً لا يُدخن أمام أبويه.
في الغرب، يتحدثون اليوم عن تغير كامل وجذري في كل العادات القديمة بسبب وباء (كورونا)، إبتداء من المصافحة ، وصولاً إلى طرق التعليم في المدارس . المصافحة تعود إلى عصر اليونان القديم، ومع ذلك، الناس بدأت بالإقلاع عنها ، وباتت تخترع طرق جديدة لإلقاء التحية، إما على الطريقة الهندية أو اليابانية. وفي العالم الإسلامي، بدأت الجوامع باستبدال عبارة “حي على الفلاح” بجملة “الصلاة في بيوتكم”، فالناس تتغير وتتأقلم مع ظروفها وحاجاتها، والدليل البسيط على ذلك ، هو وجود علب المعقم في جيوب كلّ واحد منكم اليوم، وعلى طاولات المطاعم، حتى في مجالس العزاء، حيث رأيتها بالأمس، جنباً إلى جنب من بطاقة المقرئ.
قد يكون وباء “كورونا”، رسالة مبطنة من الله، مفادها أننا تجاوزنا حدود الطبيعة في تعاملنا مع أنفسنا ، ومع اهلنا وأولادنا ، ومُدننا، وبات علينا الآن ، أن نفكر جدياً بطريقة حياة جديدة، تختلف فيها الأولويات والقيم. هل نحن قادرون على فعل ذلك؟ النرجيلة مجرد مثال ، وهو يندرج على قائمة طويلة من الأخطاء المتراكمة والمتوارثة في مجتمعنا، إبتداء من القبلات ، مرورواً بالسهر اليومي ، والأكل الدائم في المطاعم..
دعونا نفكر بقضاء وقت أطول في البيت ، بدلاً من النزول الى الشارع، لعلنا نقرأ كتاب مُفيداً ، أو نشاهد فيلماً جميلاً، أو نخصص وقتاً أطولاً لأولادنا، قبل أن يكبرورا ويخرجوا من البيت، أو قبل أن يفقدوننا نحن.
يأتي كلامي طبعاً ، بعد شهر ونيف من وفاة (أبي)، محاطاً باولاده وأحفاده وأصدقائه. غياب الأب تجربة قاسية للغاية، تَكسر الظهور والقلوب معاً. وبذلك، سوف أحاول أن أعيش اطول وقت ممكن مع صغيرتي، لتأخير الفراق المحتوم قدر المستطاع، وانا مُدرك أنه قادم لا محال. ولكني لن أتمكن من ذلك، ولن يتمكن غيري طبعاً، طالما لم تتغير عاداتنا وطرق حياتنا في هذه المدينة.
التغير ، يجب ان يكون نابعا عن حبّ الحياة، لا خوفاً من الكورونا. الخوف يوقف الحياة، ولكنه لا يوقف الموت أبداً.
والشعب السوري على المحك اليوم، للمرة المليون في تاريخه الطويل . هل نحن شعب جبّار وعظيم، كما قالوا لنا في كتب المدارس، قادر على تغير نفسه نحو الأفضل، حباً بالأفضل، لا خوفاً منه؟ لقد وضعنا اقدامنا على الطريق الصحيح، يوم أوقفنا النراجيل في المطاعم، والأمور تقاس دوماً في خواتيمها.
دعونا نكون معاً لإستمرار منع النراجيل في مطاعم دمشق ، حرصاً على شوارع دمشق وأهالي دمشق ، ورئتي دمشق المتعبة، لنجعلها فقط ضمن المقاهي المفتوحة حصراً ، ووفق شروط صحية صارمة…، كما كانت عبر العصور.
هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها