aren

حول “الإنحياز” إلى عاصي أو منصور أو فيروز … حتى القضاة نَفضوا أيديهم
الخميس - 30 - يونيو - 2022

تُبتَلى الحياة الثقافية والفنية في لبنان، بين فترة وأخرى، بأشخاص على مرَض إمّا هو الغرور بامتلاك معلومة غير دقيقة، وإمّا هو كَيدٌ مُطلَق، فيحلو لهم التدخّل السلبي في نتاج الأخوين عاصي ومنصور الرحباني مع فيروز، على أصعدة مسرح وأغان وحفلات وإنتاجات طبعت لبنان والشرق العربي بلا منازع بالإبداع الجَمالي الآسر.

التدخّل السلبي يتم من خلال الإنحياز إلى عاصي أو إلى منصور أو إلى فيروز، كلٌّ على حِدة، في استعراض مَن له الأهمية الأكبر في ذلك التعاون بل في ذلك الإتحاد الكياني الهائل الذي أنهى رَجُلاً إسمه عاصي الرحباني برجلٍ اسمه منصور الرحباني بصوت اسمه فيروز، وبات الثلاثة سرّاً يزداد غموضاً كلما أمعَنّا فيه قرباً وإدراكاً لمستوياته الكشّافة شعراً ولحناً وتوزيعاً وأداءً وفكراً ومسرحاً..

لا يعرف أحدٌ على الإطلاق، غير عاصي ومنصور، كشاعرين وملحنين وكاتبي مسرحهما، ما هي آلية العمل التي كانت تضبط أعمالهما، وهل هي آلية اعتُمدَت نفسُها في كل النتاج الفني، أم كانت آليّات أُخرى تُعتمَد، كأن يكتب واحدٌ نصّاً، يلحنه الثاني، أو يكتب واحدٌ مشهداً كاملاً من مسرحية يلحنه هو أو يدفع الى الثاني بتلحينه، أو ما إذا كان بينهما من هو شاعر فقط، أو ملحّن فقط، فضلاً عن التوزيع الموسيقي الفاتن.

عبد الغني طليس

في البدايات (أول الخمسينات) كنت تقرأ على التسجيلات الرحبانية ما يشير الى انّ الكاتب فلان والملحن فلان منهما.. أما منذ مهرجانات بعلبك 1957 فإسم الأخوين رحباني صار الماركة المسجّلة المقرَّرة بينهما، عن رضا وتعاون وانسجام واختلاف وتمايز واتفاق، وأحياناً كثيرة بعد مشاحنات «أخوية» على مقطع من مسرحية أو أسلوب نهاية مسرحية إلى آخره ممّا كان ينتهي بينهما تكاملاً.. وانصباباً على التلحين وإكمال تلك التحف الفنية الرائعة التي كانت بين أيديهما.. وكل هذا الشعر والألحان والكتابة المسرحية، بَقي مكتوم القيد الفردي، وموسوماً بـ»الأخوين رحباني».

وفي فترة الخلاف بين عاصي الرحباني وفيروز وابتعادها عن بيت «الرابية» (1980) حصلت حرب حقيقية (شخصية وعائلية) لكنْ غير معلنة تماماً بكل تفاصيلها بين عاصي ومنصور من جهة وفيروز من جهة ثانية.. استمرّت حتى بعد رحيل عاصي، ولم تهدأ جدياً إلّا بعد طلب لجنة مهرجانات بعلبك بعد الألفين من فيروز ومنصور تقديم استعادات من الأعمال المسرحية الرحبانية، وقدّماها.. بتوافق مادي ومعنوي. غير أنّ الخلاف لم يصبح عداء مُستحكماً إلا بعدما أرادت فيروز أن تجدّد بعض المسرحيات الرحبانية القديمة، فطلب أبناء منصور حفظ حق والدهم «الملكية الفكرية التي يتقاسمها مع عاصي» فكان ما كان من احتدام الموقف. وكنتُ -ولي الشرف- واحداً ممّن قدّموا طروحات اعتبرها منطقية لحل النزاع ولم أوفّق، وأعلم أنّ الملف بكل تفاصيله وأوراقه وُضع أمام محامين وقضاة كبار، سرعان ما نفضوا أيديهم منه «لغياب الإختصاص» وقد حكموا جميعاً أن الحل لن يكون إلا حبّياً بين أطرافه.

أعود الى فكرتي من هذا البحث المُحِب لكنْ الدقيق في معلوماته، لأنَبّه إلى خطأ «تاريخي» يُرتكَب بحق الأخوين عاصي ومنصور الرحباني، هو مشاركة بعض الكتّاب غير المُمتلكين الحقائق العملية-العلمية في تجربة الأخوين الكبيرين، في «تفجير» قريبٍ أو بعيد من الأخوين، قنبلة دخانية حول دور عاصي «الأكبر» من دور منصور، بناء على انحياز عاطفي إليه، أو بناء على رأي قاله يوماً فلان أو عِلّان ممّن كانوا يعرفونهما، وهؤلاء منهم من يميل الى تكبير دور عاصي، ومنهم من يميل الى تكبير دور منصور..

كان عاصي متقدماً بين متساويَين، وكان منصور قد ارتضى في ما قبل إصابة عاصي بانفجار في الدماغ عام 1971، بذلك الموقع لعاصي الأكبر سنّاً، أما بعد ذلك التاريخ المشؤوم على صحة عاصي وبيته وفيروزه، وعلى منصور إذ بات عليه أن يعوّض النقص الهائل الذي حصل في حضور عاصي وإبداعه المعروف وحيويته الدفّاقة، مع الإشارة الحاسمة التي تقول انّ عاصي استمر مُنتِجاً مع منصور، ولو بصورة لم تُرضه هو (كما قال لي في تسجيل صوتي عام 1980) تِبعاً لحاله الصحية من تداعيات الإنفجار في الدماغ، وبقيت الكلمات والألحان والمسرحيات باسم الأخوين، ولو اننا صرنا نسمع منصور يقول عن هذا اللحن او ذاك في مسرحيات الأخوين، بأنه لعاصي.. لكي يؤكد للمصطادين بينهما أنّ عاصي ما زال هنا.. وهو بالفعل كان ما زال هنا، ورغبة منصور في الإعلان عن ذلك، كانت لمواجهة الشائعات التي كادت ان تهلك عاصي ومنصور معاً..

إن كل ما نسمعه ونراه من إنتاج الأخوين رحباني هو للأخوين رحباني وليس لواحد من الإثنين دون الآخر. وإذا كانت أيام العزّ المسرحي الرحباني قد اتسمَت بإلغاء الأنا، وبإيثار الآخر بينهما، فكيف بأيام مرَض عاصي .ثم لنسأل: مَن هو الثالث الذي كان يجلس معهما وهما يكتبان ويلحنان؟ وإذا ظَنّ أحد أنّ فيروز كانت الثالث في حالات العمل الكتابي والموسيقي للأخوين فهو مخطىء، لأنّ فيروز كانت تتلقّى كل هذا الجمال بصوتها، الجميل حاضن الجمال، ولم تكن تشارك في صناعته التقنية، بل في صناعة شُهرته القوية.

بالمُختَصَر المفيد:

إن مُدّعي المعرفة ببواطن المسرح والأغاني الرحبانية، و«المطّلِعين» على الأسرار، لا يعرفون «هوية» سوى عدد قليل من الأغاني لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، في مَن كتبها أو لحّنها، وهذا ليس له قيمة أمام مئات الأغاني وعشرات المسرحيات المُلحّنة بكاملها. يعني: إذا كنتُ أنا أعرف أنّ أغنية «سَوى رْبينا» و أغنية «يا رايح ع كفرحالا» من تأليف وتلحين عاصي..

وأنّ أغنية «راجعين يا هوى»، وأغنية «غالي الدهب» من تأليف وتلحين منصور.. فماذا تشكّل هذه المعلومة في البحر الرحباني العظيم، وهل أستطيع بها أن أُفضّل فنياً واحداً على آخر منهما؟

وأنا تكلّمتُ على نفسي حتى أصل للآخرين.

لا تجوز مجاراة أحد طرفي النزاع من ورثة الأخوين، ومن مدّعي المعرفة وهم كثُر، وهم الأخطر في خفّتهم بتناول الموضوع، التحزّب لواحد دون الآخر.. فالكبير فيهم لا يعرف إلّا القليل من ذلك البحر.. ومقاربةُ بعضهم للموضوع عدائية وأنانية غالباً.. فلماذا نشاركهم المعركة الفارغة إلّا من قتل أكبر وأعظم وأكمل تجربة فنية لبنانية الى الأبد.. إذ من المؤكد أن هناك عشرات الأغاني والمسرحيات التي نحسبها على عاصي، هي لمنصور، والعكس صحيح وصحيح وصحيح.

تعالوا لنخرج جميعاً من حقل الألغام هذا.. وإذا أراد الورثة متابعة الكيد والحقد و«البلْغَصة»، فلتنفجر بهم المكائد !

إن ما لديّ من تسجيل حوارات مع عاصي ومنصور يقول بوضوح.. انه لم يكن هناك لا عاصي ولا منصور، بل كان هناك «الأخَوان رحباني»: الكائن الثالث الذي سنفيق يوماً على أنه كان أغلى وأعمق ما في لبنان.