لا يعد التصعيد الأمريكي الإيراني سابقة في علاقة البلدين، إنما التدقيق في الأمر، يظهر ثبات التوتر، وبقاءه ضمن سقف محدد مع تسجيل مؤشرات بين فترة وأخرى، تتخطى الإطار المتعارف عليه بين الجانبين؛ ويعود الأمر في ذلك إلى طبيعة المطالب، وارتباطها بأطراف أخرى، الأمر الذي يزيدها توتراً وتصعيداً؛ لكن الثابت في مجملها قدرة الطرفين على إيجاد مساحات للتفاهم، وإن بطرق وسيطة وغير مباشرة على تفكيك القضايا الأكثر تعقيداً بطرق تترك الأبواب مواربة لأي مشروع يعيد امتصاص حدود التوتر والتصعيد إلى مستويات مقبولة، ومتعارف عليها بين الجانبين.
ورغم وصول التصعيد هذه المرة إلى مستويات يعدها البعض غير مسبوقة، فإنها لم تصل إلى حد اعتبار طرق العودة مغلقة، وبالتالي الذهاب إلى صدامات عسكرية مباشرة. ففي أحلك الظروف ثمة قنوات حافظت على حد أدنى من إمكانية التفاهم على جوانب عديدة من القضايا المثارة، وإن كانت تتمظهر بتصعيد عالي السقوف. فهل التصعيد سيؤدي إلى صدام ؟ أم أن الطرفين سيعودان إلى مسارات سبق واعتمدت لخفض حدة التوتر؟
إن التدقيق في ذلك يرتبط في النهاية في مستوى المطالب المتبادلة وإمكانية احتوائها وإيجاد طرق بديلة لتخطيها عبر وسائل وسبل احترف الطرفان في إيجادها وتأمين البيئات الذاتية والموضوعية؛ للبناء عليها، وفقاً لاعتبارات متنوعة تتلاءم ومستوى المصالح المطلوب تحقيقها، والتي عادة ما تتقاطع أو تتباين مع مطالب وظروف أخرى إقليمية ودولية، مترافقة للتصعيد بين الطرفين.
وربما الخلاف القائم وما يدور حالياً حوله، يتعلق بجوانب استراتيجية نوعية بأبعاد إقليمية ودولية عالية المستوى؛ كالبرنامج النووي وما يتعلق فيه، إلا أن الطرفين تعاملا مع إدارته كأزمة ظاهرها عالية المستوى، إنما وسائل التعامل معها ظلت منضبطة في أُطر يمكن السيطرة عليها، واحتواء النتائج المتوقعة منها. فعلى الرغم من ظهور وقائع حساسة ودقيقة تنذر بإشعال حرب إقليمية، فإن التدقيق في تفاصيلها يشي ببقاء الوضع في سياقات منضبطة، وقابلة للاحتواء في حدود وأطر دبلوماسية، وإن بدت في جوانب منها غير مألوفة وعالية التوتر؛ وذلك يرتبط بالنتيجة بالخوف من الانزلاق إلى مواجهات يمكن أن تكون نتائجها السلبية، أكبر مما يمكن استثماره سياسياً واقتصادياً، وحتى في القضايا الجيوسياسية في المنطقة، وهو أمر حرص عليه الطرفان، وإن بمستويات متفاوتة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، رغم التشدد الإيراني في المواقف المعلنة تجاه القضايا المطروحة، فإنها لم تتخذ مواقف وخطوات ذات طبيعة تنفيذية مباشرة، وسلكت طرقاً يستشف منها استثمار أذرعها الخارجية في مواجهة بعض الوقائع والضغوط المفروضة عليها؛ إذ لم تفرز هذه السياقات من التعامل وقائع استفزازية جديدة، تنقل أطر المواجهة إلى مستويات غير مرغوب بها إيرانياً وأمريكياً.
في المقابل وإن بدت الإدارة الأمريكية أكثر تشدداً، فإن بعضها أبدى صراحة عدم الذهاب للمواجهات العسكرية المباشرة؛ بل تم تسريب إمكانية إيجاد قنوات اتصال عبر أطراف أخرى، وهذا ما تم التعامل معه من قبل الطرفين معاً، كسويسرا التي تقوم بإدارة العلاقات بين الطرفين دبلوماسياً، أو عبر الزيارات الدبلوماسية، التي قام بها وزير الخارجية مايك بومبيو إلى روسيا والعراق علاوة على دبلوماسيين أمريكيين زاروا عواصم معنية بالملف، وفي مقابل ذلك أيضاً تنشيط الدبلوماسية الإيرانية؛ كزيارة وزير الخارجية الإيراني إلى طوكيو على سبيل المثال لا الحصر، وزيارة وزير خارجية عُمان إلى طهران.
إن الوقائع التي تمت قراءتها بدقة متناهية، والسياقات التي تم اتباعها من قبل الطرفين حتى الآن، تشي برغبة واضحة في إبقاء الظروف القائمة حالياً في مستويات قابلة للاحتواء، فلا طهران قادرة حالياً على فتح سياقات تصعيدية، تؤدي إلى صدام عسكري مباشر، ولا الظروف الإقليمية مؤاتية حالياً للذهاب نحو الحرب أمريكياً، وعلى الرغم من وجود الكثير من الصور التصعيدية ظاهرياً، فإن التدقيق في الأمر يشي بمواجهات غير مباشرة قابلة للاحتواء أقله مرحلياً.
“الخليج”