يبحث المجتمع الدولي عن مخرج لمأزق عدم تسليم الدولة اللبنانية مباشرة لأي مشاريع تنمية. هناك فكرة في بعض الأوساط الدولية تقترح أخذ مدينة طرابلس اللبنانية كإطار – مختبَر لبدء ورشة تنموية إنقاذية.
أهمية الفكرة أنها تضع يدها على واحدة من أهم مدن البحر الأبيض المتوسط الفقيرة والمصدّرة للمهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا.
الألمان مهتمون بالفكرة حسب بعض المعلومات، الفرنسيون طبعا، منذ فترة جاء نائبان فرنسيان إلى المدينة اكتشفا فضيحة فساد في مرفق كان تمويله من أموال الاتحاد الأوروبي، السفيرة الأميركية زارت بلدية طرابلس، ربما غيرهم لكن الجميع يبحث عن شركاء تنمية خارج المرجعيات السياسية وخصوصا في الدولة اللبنانية المتداع ، أصبح من التكرار القول أن ميليارديرية طرابلس، لاسيما الثلاثة البارزين المعنيين، فوّتوا الفرصة أمامهم لقيادة ورشة تنموية للمدينة وفضّلوا تباعا بل استسهلوا دائما اللجوء إلى العمل الخيري من تبرعات ومساعدات معتبرين أنفسهم “مسلمين صالحين” ، ولكن أزمة المدينة الاقتصادية والتنموية صارت أعمق من مجرد ثقافة دينية تحرّض على نصرة يتيم ومعوز، ثقافة يستريح إليها الأغنياء، بينما فقراء المدينة يهربون عبر البحر للالتحاق بدول “كافرة” يجدون فيها ملاذهم الآمن ولو جازفوا بحيواتهم.
هل يمكن لِ “المجتمع المدني” الطرابلسي بتركيبته الراهنة أن يكون شريكاً تنمويا كفؤاً لبعض الدول الغربية في النهوض بالمدينة طالما أن طريق الدولة غير موثوق وفاقد المصداقية؟
هذا سؤال يجب أن تجيب عليه نخبة المدينة من خبراء وناشطين في الجمعيات الأهلية؟
هناك طبعاً خارطة طريق مشاريع مؤتمر سيدر المجمدة بسبب مشكلة الدولة اللبنانية التي لم تعد موثوقة عبر طبقتها السياسية وجهازها الإداري.
للإسكوا، المنظمة الدولية المرموقة التابعة للأمم المتحدة مجهودات بحثية كبيرة في مجال رصد الواقع الطرابلسي ساهم فيها بشكل أساسي باحثون لبنانيون جديون. قبل سنوات وضعت المنظمة تقريرا عن ” الفقر في طرابلس” وأعلنته من غرفة التجارة والصناعة في المدينة. الأرقام كانت التالية:
يعاني 57 في المائة من أهل طرابلس من الفقر والحرمان، ومنهم 26 في المائة يعيشون في فقر مدقع ويصنفون في خانة الأشد حرمانا، 77 في المئة متعثرون اقتصاديا، و35 في المئة يعانون مشاكل صحية، ومثلهم يقطنون في مساكن غير لائقة، و25 في المئة محرومون من التعليم.
هذه أرقام عام 2015 فلنتصوّر كيف تكون اليوم بعد الانهيار الاقتصادي على المستوى الوطني؟ مع الإشارة إلى أن تقرير 2015 طالب بقيادة محلية قوية للمدينة تكون الشريك الفاعل في عمليات التنمية المطلوبة.
وتقترح الخطة مشاريع صارت معروفة على كل لسان منذ زمن طويل وسابق عليها هي:
1- إعادة تأهيل مرفأ طرابلس،
2- إعادة تأهيل خط سكة الحديد باتجاه سوريا (وفي ما بعد باتجاه بيروت)
3- مشروع البناء الجامعي الموحد التابع للجامعة اللبنانية
4- مشروع مطار القليعات
5- إعادة تشغيل مصفاة طرابلس
وحسب بعض المعلومات يجري التفكير بمشروع تأمين الكهرباء للمدينة كخطوة ملحة وبحيث تتولى ذلك دولة أوروبية هي ألمانيا.
كانت في طرابلس منذ انخراطها في الكيان اللبناني روحية “انفصالية” ما حتى وهي تلتحم بالصراع العام في لبنان. إنه ليس الانفصال التقليدي ولكن ذلك المنبثق عن شخصية المدينة الخاصة وردود فعلها على الأحداث ولذلك نضع الكلمة بين هلالين. من “انفصالية” النزوع إلى الوحدة السورية في العشرينات والثلاثينات إلى “انفصالية” تأييد الدينامية القومية العربية في الخمسينات حتى الستينات ولو كانت قيادة الرئيس رشيد كرامي البنّاءة ضمن التجربة الشهابية مَنَحَتْها قدرا من الاستقرار الفعال، وحتى بعد اندلاع الأزمة في سوريا عام 2011 عبّرت “انفصالية” طرابلس عن نفسها كشريكة في الصراع الداخلي في سوريا مقابل “انفصالية” حزب الله الذي التحم بتلك الأزمة علنا على الضفة المقابلة.
الآن جاء دور “الانفصالية” التنموية (إلا في ما يتعلق بصلة طرابلس بأريافها) في ظل عجز الدولة الشامل وليس في طرابلس وحدها. مع ضرورة الإشارة إلى أن تقرير الإسكوا حتى وهو يطرح اقتراحات لمشاريع كبيرة كان لا يزال يربطها بالخطة الوطنية المطلوبة للتنمية على المستوى اللبناني. اليوم وأمام التحولات البنيوية الانهيارية صار من المفترض أن “تنفصل” الكبسولة الطرابلسية عن الإطار التنموي اللبناني لكنها “انفصالية” بناءة تحت رعاية المجتمع الدولي وخصوصا الغربي وبالأخص الأوروبي. فهل تكون طرابلس تحت وصاية تنموية أوروبية خاصة؟
ليست بيروت الشهيدة منذ 4 آب بحالٍ أفضل من طرابلس في جوانب عديدة. لكن بيروت وهي العاصمة ولأنها العاصمة ترزح تحت مكبِّلات سياسية تجعل وضعها مرتبطاً أكثر بانفراج في مفاصل أزمة النظام السياسي المشدودة، هذا على الرغم من أهمية الوعي العملي المتزايد بدعم مبادرات المجتمع المدني كشريك في مبادرات الدعم الغربي.
يبقى أخيرا أن نجاح النموذج التنموي الطرابلسي سيكون حافزا لبيروت وحتى غيرها من المناطق. والكلام يعج بالمضمَرات والنوايا الطيبة أمام نظام سياسي لبناني فقد صلاحيته ولا يزال قويا!!!
“النهار”اللبنانية