
اللافت في السياسة الأمريكية الجديدة ، أنها تنحاز إلى السياسة الواقعية بخلاف السياسة المتشدِّدة ، التي كانت أقرب إلى المنحى الإيديولوجي ، او المنحى الُمغاير لطبيعة السياسة الواقعية ، الذي عرفته السياسة الأمريكية لـ(عقد) خلى.
وغدا -مؤخراً- هذا الاتجاه غالبًا على السياسة الخارجية الأمريكية ، يظهر الأمر في الانسحاب من أفغانستان دون تمهل وفق القاعدة الواقعية، التي تقول الانسحاب من الحرب لا يمكن الفوز بهابعيداً من مقولتي الهزيمة أو النصر ، أفضل من الاستمرار بها.
كذلك الاستجابة السريعة لضرورة فتح ثغرة في الحصار على كل من لبنان وسورية (بدلا) من أحكام الحصار دون أي ثغرات وفق القاعدة الشهيرة في السياسة الواقعية التي تقول : افتح ثغرة قبل أن يكون الحصار (المطلق!) طريقاً لأثمان لاطاقة لك بها. وخشية الخسارة في التنافس الإقليمي-الدولي في المنطقة.
اللافت أكثر ، أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تتدخل بالتفاصيل!!! وأنها تفسح في المجال أمام الدول أن تتحرك ، وفقًا لمصالحها على أن لا تتناقض كليًا مع المصالح الأمريكية، وهذا ما يفسّر اجتماع بغداد الأخير، وهو ما سوف يُفسر لاحقاً قرب عودة العلاقات الدبلوماسية مع “دمشق”، وربما الانسحاب خلال أشهر من الشمال السوري.
والامر (نفسه) قد يفسر أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لا تذهب إلى صراع ُمباشر مع الصين ، رغماً عن كل الظروف التي تهيئ لذلك؛ على اعتبار أن الصراع المباشر ، ستكون تكلفته عالية وهذا ما لا طاقة لواشنطن على ذلك في مرحلة اقتصادية صعبة عليها ، وعلى العالم معاً. فضلا عن أن الصراع بين الكبار لا يكون مباشراً ، وعادةً يُفضل أن يكون التلويح بالصراع ، مدخلاً إلى المساومة ، وإلى مقاسمة الإرادات
الكبار لا يتصارعون ، كما يتصارع الصغار مع الصغار، أو الكبار مع الصغار! ثمة لغة أخرى ، فيها رزانة الموقف الذي يستبعد الصدام ! وهنالك قواعد لا يحيد عنها الكبار مع بعضهم البعض ، ومنها عدم كسر هيبة ، أو وزن الآخر كلّياً؛ لأن كسر هيبة الكبير ، تعني الرد بكسر هيبة الكبير ( الثاني)؛ فكسر الهيبة ليس من السياسة الواقعية لأن (الهيبة تتعمم) ! وعالم بلا كبار يفتقد إلى القواعد، وهذا ما تعرضت له السياسة العالمية عند غياب السياسة الواقعية إلى حين. وثمة اليوم عودة من جديد إليها
طبعا لا يرضي هذا النوع من التحليل المستند إلى لغة الكبار (الخاصة) ، الميول الإيديولوجية والتعبوية في التحليل، ولكنه واقع الحال، وناقل الكفر ليس بكافر!
وعمومًا ، لا يبدو من المفاجئ أن نرى ونسمع المزيد من المواقف، التي لم تكن مألوفة لدى المراقبين للسياسة الأمريكية ، وخاصة في مناطق عديدة كانت تعتبر على مدة اكثر من 70 عاماً ، أولوية كبرى في السياسة الأمريكية.
الأمريكيون ، ينكفئون أحيانا بعقلانية ، وأحيانا بدونها، ولكن تياراً غالبا اليوم في الدولة العميقة ، يميل إلى السياسة الواقعية ، وهو ياخذ فرصته. و هنالك احتمال لصراع داخل الدولة العميقة (نفسها)، وقد يطيح في لحظة ما بين رواد السياسة الواقعية، الذين ياخذون فرصتهم اليوم.
المهم في التحليل الآن ، أن رواد السياسة الواقعية ، هم اليوم في الواجهة. وهؤلاء لا يخضعون للعقلية المتشددة الأيديولوجية ، رغم بعض التدخلات الأيديولوجية هناوهناك التي تشوه اللوحة الواقعية، رغم أن الجرعة الواقعية عالية إلى حد كبير ، حتى الآن.
هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها