خلا الشارع تماماً من حركة السيارات أمام مبنى مصرف لبنان. أغلقت القوى الأمنية الطريق وحوَّلت السير المتَّجه إلى الحمرا إلى ناحية “شارع أميركا” الموازي في منطقة “جنبلاط”.
لم يكن السبب هذه المرَّة وجود متظاهرين أمام المصرف، بل طابور السيارات أمام محطة الوقود القريبة. منذ أشهر غاب المتظاهرون هناك. بقيت شعاراتهم وشتائمهم على حيطان “المركزي” و”الداخلية” شاهدةً على مَن رفعوا الصوت بوجه سياسة “حُكم المصرف”.

مَرَّة بعد مرَّة كان يُعاد طلاء الجدران إلى أن استسلم أخيراً المكلَّفون بالمهمّة للأمر الواقع. “أنيج اتفاق الطائف”. لعلّها واحدة من أكثر العبارات غرابة في “كومة” الشعارات التي بدت أشبه بـ”تايم لاين” واحد بـ”حسابات” متداخلة. على أيّ حال، ابتلع الانهيار كلّ شيء: “الطائف” والطوائف والدولة والناس. انتظم الجميع في الأشهر الأخيرة في طوابير البنزين الطويلة وتحوّل بعضهم إلى “تجّار” صغار في بزنس السوق السوداء المزدهر، بأشكال مختلفة، حيث “الكل” يريد أن يربح ولو على حساب “الكل”.
مضت ساعات على جولة العنصر الأمني ،برفقة زملاء له، على محطات الوقود في ما يقال إنه “كبسة” على محتكري ومخزِّني المحروقات. “كس إخت هالشغلة ما عاد بدي ياها”. قال “العنصر” لرفيقه عند بدايات شارع الحمرا: “صرنا فايتين ع 8 محطات وما طلعلي ولا غالون”! هكذا إذاً، الكل يريد أن يأخذ “حصَّة”، وقس ذلك على مستويات مختلفة “من فوق” و “من تحت”. العبارة الأخيرة ليست دقيقة تماماً. تكاد أغلبية اللبنانيين تصير “من تحت”.
قرب مبنى “إتوال”، عند تقاطع شارعَي “روما” و”الحمرا”، حضر الركَّاب ولم يحضر “فان رقم 4”. منذ استفحال أزمة المحروقات انخفض عدد الفانات إلى النصف تقريباً. مؤخَّراً رفعوا التعرفة للمرة الرابعة أو الخامسة خلال سنة ونصف السنة. في دراسة صادرة حديثاً أشارت “الدولية للمعلومات” أنه “بعد رفع سعر صفيحة البنزين مؤخراً إلى 128200 ليرة، أصبحت كلفة الكيلومتر الواحد نحو 1311 ليرة لسيارة متوسط استهلاكها 170 كلم/ 20 ليتراً من البنزين”.
بعد رفْع الدعم الكامل عن المحروقات ستتعمَّق أزمة النقل أكثر فأكثر، وستبدأ مرحلة جديدة من مأساة اللبنانيين على الطرقات ما يهدد بشلِّ “مفاصل” البلد. كم كانت “الدولة” خفّفت من حدة الأزمة وكلفتها على الناس لو اعتمدت خطة نقل عام طارئة وشاملة قبل سنة على الأقل؟ مَن يهتم أصلاً؟

في المقهى، في شارع الحمرا الرئيسي، كان صحفيّان يتحدّثان عن شيء آخر. عن أفغانستان وحكم الطالبان و”فخ” الأميركان وعقدة “وادي بانشير”. لكنهم ما لبثوا أن عادوا لواقعهم: “الأزمة ستتعمّق أكثر في المجتمع وتدفع الناس لمزيد من الهجرة”، قال الأول. أخبره زميله أن شقيقه يريد بيع الـ”فيلا” التي بناها بنفسه في الجبل والهجرة نهائياً إلى سلوفاكيا، الدولة الأوروبيَّة الشرقية.
خارج المقهى، أصوات مولّدات كهربائية، وسيّاح عراقيون شكّلوا النسبة الأكبر من إشغال الفنادق في منطقة الحمرا هذا الصيف، ومتسوِّلون متروكون على الأرصفة. ماذا أيضاً؟ بول شاوول يجلس وحيداً في المقهى مع جريدته. تسأله إمرأةٌ عن اسمه فيبتسم. تحدّثه عن قراءاتها المفضّلة بعد أن عرفت مَن يكون. “يطبُّ” عليه شاعر آخر كان التقاه قبل سنوات في فرنسا. “بوول؟ لك شو صاير بالبلد يا بوول؟”، يقول الرجل. غداً يوم آخر!