
لم يمت سايكس بيكو عكس ما اعتقد كثيرون، بل في نهاية العقد الثاني من هذا القرن وُلِد أو ظهر ما يعادله ويبدو تاريخيا أنه الفعل المؤسِّس الثاني بعده، وكلا الولادتين في السنة العشرين من القرن، القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين.
لكنه فعلٌ مؤسِّس على وقائع لا خرافات.
عام 2020 أصبحت إسرائيل دولة شبه طبيعية في المنطقة بل دولة قائدة في المنطقة. استغرق هذا التدرج أكثر من أربعين عاماً هو عمر السلام الذي أسسته مصر عام 1978. من سوء الحظ أن ذلك يتم في عهد اليمين الإسرائيلي الذي لا يريد أن يفهم أهمية حل عادل للموضوع الفلسطيني لكي تتحرر نوايا السلام العربية العقلانية من عقالها. ولا شك أن قادة دول الخليج هم في مقدمة من يتحسّر على هذا النقص الفادح في الإرادة الإسرائيلية حيال الشعب الفلسطيني. من نظرة متفائلة يتم الزواج العربي الإسرائيلي قبل العرس وقبل زف عروسه الفلسطينية. إنه عرس جديد وعروس لم تعد هي نفسها.
هل سيحترم العقل الإسرائيلي الحاكم، أيا يكن ممثله، هذه الحسرة العربية؟ المسألة الآن هي بين يدي الغرب وفي مقدمه الولايات المتحدة الأميركية.
دعونا نبدّد بعض المبالغات. ففلسطين ككيان وكمشروع دولة أصبحت مشروعا غربيا منذ العام 1967، عام الهزيمة الكبرى، وكرّس ذلك تسليمُ قادة الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات و”فتح” للملف الفلسطيني إلى الغرب بشكل نهائي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي بل منذ ظهر أنه آيلٌ للسقوط. وما أعقبه من صيغ فلسطينية خلاقة لتطويع نضالات الداخل السلمية من ضمن هذا السياق الدولي الغربي الجديد. كانت انتفاضة عام 1987 الفلسطينية هي عنوان هذا الانتقال الذي أفضى إلى إنجاز اتفاق أوسلو الكبير كإنجاز نوعي تاريخي شكّل مدخل أكبر عودة فلسطينية إلى داخل فلسطين منذ الخروج الكبير عام 1948.
المنطقة اليوم تنتقل لا فقط إلى علاقاتٍ جديدة بل إلى مفاهيمَ جديدةٍ هي مفاهيم القرن الحادي والعشرين في النظرة إلى التعليم والبيئة والتكنولوجيا والثروة والطاقة و حتى إلى مفهوم الوطنية. لن يكون ممكناً تبلور هذا المسار وهناك غيتو بؤس فلسطيني في المنطقة متروكٌ وحيداً في حديقتها الخلفية. لا شك أن قادة الخليج لن يتركوا الأمر على هذا النحو وعلينا أن نراقب الآن كيف ستتحوّل البيئة الدبلوماسية الجديدة في المنطقة إلى قوة محاولة تحسين شروط الوضع السياسي الفلسطيني. وبمجهود لا نشك أن الخليجيين سيكونون في مقدمته.
يتطلّع الخليجيون بواقعية عميقة إلى المستقبل. لا يجب أن يستخف أحدٌ بإحساسهم الكبير بالمسؤولية. دعونا من المزايدات التي لا تغني ولا تسمن من جوع. الخلل السياسي الاستراتيجي الذي أودى إلى الالتحاق بالتطبيع قبل إنجاز السلام العادل مع الفلسطينيين ليس نتاج مسؤولية الخليجيين والأهم يتخطّى قدراتهم وقدرات أي دولة في المنطقة بما فيها تركيا وإيران وما بات يلتحق بهما. فإيران، دولةُ شعارِ “الممانعة” تتعرض يوميا في سوريا إلى إهانات الضربات الإسرائيلية على مواقعها هناك ولا تجرؤ على الرد ولو المحدود.
أليس ذلك جزءاً من هذا الخلل الاستراتيجي العسكري فالسياسي.وهل دولة كإيران ودولة كتركيا بكل مظاهر القمع العميق لبناهما الاجتماعية والنخبوية قادرتان على سد أي شكل من أشكال هذا الخلل، ناهيك طبعاً عن التخلف الاقتصادي والعلمي في إيران، الذي صحيح أن العقوبات تساهم فيه ولكنها لا تصنعه لأنه ناتج عن اقتصاد يركع يوميا مرتين، مرة لإلههِ في السماء،كنظام ديني، ومرة للدول الصناعيةالمتقدمة، كما كتبتُ في جريدة “السفير” قبل أقل من عشرين عاماً.
يتطلّع الخليجيون حولهم فيرون انهياراتٍ تنمويةً متزايدةً وشعوباً بعضها شبه جائع وتريد أن تهاجر أكثر مما تقيم ويرون تكاثرهم السكاني، أي الخليجيين، وتُتابعُ أجيالُ نخبِهم الجديدة المتعلمة تحولات الاستغناء عن النفط والغاز في الاقتصاد العالمي وخصوصا النفط والغاز التقليديين لصالح مصادر طاقة جديدة أو متجددة أو باكتشاف ثروات نفطية وغازية في مناطق جديدة غير مناطقهم.
ويسألون عن مصيرهم في عالم لن يكون عادلاً ولا رحيماً على غير المتكيّفين ولا يرون بصيص أمل قريبا على خارطة المنطقة رغم أن بعض قياداتهم ارتكب خطأ اللعب باستقرار بعض الدول العربية، كما في سوريا بل في سوريا أولاً وانتبه لاحقاً أن منطقةً هذه ظروفها لا ينبغي تحت أي ظرف أن يدخلوا في لعبة عدم استقرارها، وهي لعبة تتقنها أكثرَ أنظمةُ دولٍ مثل إيران تقوم على إدارة اللااستقرار حتى الداخلي بالمعنى العميق للكلمة.
يسأل الخليجيون، وهم الذين يحبون الديوانيات، يسألون بعضهم البعض هل الشعب الإيراني يريد الإنفاق على مشاريع سياسية خارج إيران وهل أصلا يريد ملايين الشباب والنساء والرجال الإيرانيين سياسة قطيعة مع الغرب أم أنهم وهم الشعب العريق والحيوي يرغبون بالانصراف إلى بناء مستقبلهم ومستقبل أبنائهم دون الاضطرار للالتحاق بطوابير الهجرة المليونية إلى بلاد الغرب؟
ولديهم طبعا الجواب الذي نعرفه نحن أيضا في لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا.
أما لبنان “الدولة التي تشكّل خطَراً على شعبها” كما وصفها الصديق الدكتور روجيه ديب في مقابلة تلفزيونية مؤخرا، فتعيش مرحلة يتداخل فيها الانهيار الاقتصادي والتدهور البيروقراطي والضياع السياسي وفقدان البوصلة الاستراتيجية بصورة لا تسمح له بالتكيف الفعّال مع التحولات إلا حيث ينبغي انتظار الفعل الإقليمي أو الدولي الخارجي.
ولولا القرار الإيراني بتسهيل عملية التفاوض على الحدود البحرية مع إسرائيل، العملية المليئة بالدلالات، لكان اكتمل الانغلاق اللبناني على كل ما هو استراتيجي في المرحلة. لكن السؤال المثير هنا، هو هل كان لإيران أن تُقْدم على ذلك ( السماح بالتفاوض اللبناني الإسرائيلي) لو لم تكن تريد أن ترسل إشارة تكيف مع التحولات الخليجية ولكن لحسابها الخاص طبعاً في دفتر الشيفرات المعقّد بينها وبين إسرائيل وليس فقط بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية.
هذاالتفاوض هو إذن، لبنانياً، الثغرة الوحيدة التي تفتح على المستقبل في الجدار اللبناني المسدود الأبواب. خصوصا أنها ذات طابع إنقاذي اقتصادي ( الثروة الغازية) وليست فقط حركة إيرانية على رقعة شطرنج عاد ليديرها في واشنطن وريث لإدارة أوباما دون أن يعني ذلك انتظار عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل إدارة ترامب. فإدارة بايدن لن تكون إلا مرحّبة بخطوات التطبيع الخليجي مع إسرائيل في محاولة استثمار لجعل أية عملية تفاوض أميركي إيراني على اتفاق نووي يعني عميقا ضمانات خروج إيراني عملي من الصراع مع إسرائيل مقابل رفع العقوبات؟
“النهار”الللبنانية