عضو المخابرات العسكرية الامريكية ، الذي شهد معركة (الثغرة) في نهاية الحرب العالمية الثانية ، “هنري كيسنجر”، وبعد مروره مع ماء كثير تحت جسر الزمن ، يأتينا في زمن (كورونا) ، ليشهد على أن العالم اليوم ، يعيش أجواء معارك الحرب ضد النازية ، مادحا اجراءات ترامب ، مؤكدا ان العالم (بعد كورونا) ، لن يكون كما كان قبل الفيروس المتفشي.

كيسنجر
داعيا الى التوازن الدولي ، بحيث تبقى امريكا ، مركز هذا التوازن ، ليتجنب العالم انفجار صراع القوى ، بدل تعاونها . ولم يستطع مادح ترامب والمبخر لسياساته ، الا ان يقر بان خلاص العالم بعد كورونا ، لن يكون ، الا عبر امرين :
الأول ، دولة وطنية قادرة في كل بلد – الثاني ، نظام دولي تتوازن فيه القوى بتعاون تكون واشنطن (مركزه).
وروجت وسائل الاعلام ، لنبوءة كيسنجر على أضواء شهرة نجوميته الخادعة ، وتعامت ، مثلما تعامى هو نفسه عن فشل الادارة الامريكية برئاسة ترامب ، عن الاستجابة لتهديد كورونا ، كما اخفق النظام الامريكي بتوفير مستلزمات الصحة اللازمة لمواجهة الوباء. خاصة ، وان استهتار ترامب بالفيروس ، والوباء المتفشي عنه في البداية ، تسبب بكوارث على الشعب الامريكي.
وهذا التعامي الكيسنجري عن فشل النظام الامريكي في خدمة صحة مواطنيه ، جعله يتعامى عن عجز مثل هذا النظام ، لعب دور مركز التوازن في أي نظام دولي بعد كورونا. أي أن رؤية كيسنجر لمابعد كورونا ، هي رؤية (حولاء) ، أو نصف عمياء .
بعد مقال كيسنجر في “وول ستريت جورنال” ، وترويج الاعلام لنجوميته ، يطلع علينا صاحب (نهاية التاريخ) ، “فرانسيس فوكوياما”، بمقال في مجلة “اتلانتيك” ، يرى فيه ان كورونا ، أقنع العالم ، بان الدولة الافضل ، هي التي (تستطيع ان تحافظ على التنظيم الاجتماعي الاقتصادي ، في مواجهة الازمات) ، ودون ذكر لليبرالية التي كان يبشر بها ، ودون تطرق للديمقراطية التي كان ينادي بها.

فوكوياما
يرى فوكوياما ، ان الاساس في تصنيف الانظمة السياسية ما بعد كورونا ، هو (مدى قدرة السلطة التنفيذية على اكتساب ثقة المواطنين ، باجراءاتها في مواجهة الازمة) ، أي أن الانظمة الأنجع للمجتمع والمواطن ، هي الانظمة القوية في الحفاظ على الاستقرار، وضبط حركة المجتمع ، بمايدفع لتجاوز الازمة ، وهي في نفس الوقت ، الانظمة القادرة على تأمين الاحتياجات الانسانية من طبية وخدمية واقتصادية ، للاستجابة لأي أزمة ، وتجاوزها بأقل الخسائر . وهكذا ، يحتل (نظام الاستقرار والكفاية ، والتنظيم) دون اشتراط ليبراليتها ، أو ديمقراطيتها ، عرش الشرعية ، والافضلية بين الانظمة.
وهكذا ، فان ما اكتفى (كيسنجر) بتسميته “الدولة الوطنية”، فصّل فيه (فوكوياما) ، شارحا ، بانها الدولة ذات النظام ، الذي يؤمن الاستقرار والكفاية ، ومتطلبات المجتمع لمواجهة الازمة.
وبذلك ، تصبح “الدولة الوطنية، القادرة على حفظ التنظيم الاجتماعي والاقتصادي ، فاعلا ومستقرا ، وملبيا للاجراءات المطلوبة”، هي مقياس نوعية الدولة ، الأكثر خدمة لمواطنيها ، والأشد فعالية في الحفاظ على صحة وانتاجية واستقرار مجتمعها وشعبها ، وعلى شكل هذه الدولة.
وبما يخالف تعصب كيسنجر لامريكا ، فان النظام العالمي ، الأكثر جدوى ، هو مايوفر الاستقرار الأكبر للمجتمع الانساني ، ويقدم بتعاون دوله ، جميع مستلزمات الامن الصحي ، والاجتماعي والاقتصادي والسياسي. انه النظام الدولي ، القائم على مجموعة مبادىء ، أساسها التعاون والتعاضد والاحترام المتبادل للاسهام في سعادة الانسان وحريته ، وارتقائه.
يبدو ، ان عمل كيسنجر في المخابرات العسكرية نهاية الحرب العالمية الثانية ، طبع سلوكه وطغى على تعليمه وأفكاره . وممارسة مهمته كوزير للخارجية ، باعتباره عضوا في المخابرات العسكرية ، شجع دولا تسلطية ، واعتمد الانقلابات – تشيلي تشهد – ومارس كل الاعيب هذه المخابرات القذرة في سياساته بالشرق الاوسط.
والمصيبة ، انه “كيسنجر” في نظرياته وتحليلاته السياسية ، بقي أمينا لطبعه المخابراتي العسكري ، والمصيبة الاكبر ، ان الاعلام ، صنع منه ، نجما مفكرا، وأخفى طبيعته الاساسية.
لذلك ، نناقش طروحاته ، ونفند آراءه ، كما نناقش طروحات “فوكوياما” ، الذي اعتبر يوما ، ان سقوط (الاتحاد السوفيتي) ، هو انتصار نهائي لليبرالية ، ونهاية للتاريخ.
واليوم ، كورونا ، وضعت “كيسنجر وفوكوياما “، على التوالي ، أمام تحد فكري سياسي ، لتثبت من جديد ، ان الخلاص ، ماهو الا بدولة وطنية نزيهة ، قادرة وقوية ، وبنظام عالمي ، يحترم كيانية كل دولة ، او يعلي قيم التعاون والتعاضد والديمقراطية بين الدول ، ليحقق هدف الانسانية جمعاء في الحرية والعدل والمساواة والارتقاء ، بشكل يؤدي الى سعادة الانسان الحقيقية في كل مكان.
“كورونا” ، تدفعنا لاعادة النظر في كل أحوالنا ، وتطالبنا بضرورة ابتكار طريقتنا ، وتحتم علينا ان نناقش الافكار ، التي يريدون ان تتحكم بنا ، كأفكار (كيسنجر و فوكوياما).
وحتما، … هو نقاش مفتوح ، وملحّ.