aren

بطاركة الثقافة – ديناصورات التنوير \\ بقلم : د.علي حرب
الإثنين - 16 - نوفمبر - 2020

(خاص)

التجدد الاخباري

هناك مثقفون عرب وغربيون، قضوا الشطر الأكبر من حياتهم، يدافعون عن قيم الحداثة والتنوير ، أو عن المجتمع المدني والديموقراطي، في مواجهة الفكر الأصولي والمشروع السلفي، فضلاً عن مواجهة النظام الشمولي والاستبدادي.ولكن مشكلتهم أنهم توقفوا عند عصر معين، أو مفكر بعينه، أو عند شعار وحده من دون سواه، يرون فيه المرجع أو النموذج والمثال، الذي نرجع اليه أو نقيس عليه أو نعمل به، لنضع حلولاً لمشكلاتنا الراهنة. وهؤلاء يفكرون، ومن حيث لا يحسبون، على نحو أحادي أصولي.وإذا كنت من جهتي أنخرط في نقد المشاريع الأصولية، دفاعاً عن الحداثة ومكتسباتها، فلا يعني ذلك أنني أتبنّى المشروع الحداثي من غير مراجعة نقدية، على ما يفكر ديناصورات الحداثة وبطاركة الثقافة.

لاهوت الحداثة

ومسوغي الى ما أذهب اليه هو أن المشروع الحداثي العربي النهضوي، التنويري والليبرالي، قد أُطيح بكل مكتسباته الحضارية والمدنية والسياسية، بعد سيطرة المشاريع الايديولوجية ذات الطابع الأحادي والشمولي، بنسخها القومية واليسارية والإسلامية. وكل نسخة منها لعنت سابقتها واستجمعت مساوئها. مما يعني أن يعيد الحداثيون التفكير في عناوين مشروعهم، على سبيل التطوير والإثراء والتجديد، إذ لا شيء، بعد التراجع والاخفاق، يعود كما كان عليه من دون تبديل أو تغيير.

يُضاف الى ذلك مسوغ آخر، لعله الأبرز والأقوى، وهو أن الحداثة، التي نسج العرب الحداثيون على منوالها، حداثة ديكارت وروسو وكنط وهيغل وسواهم ، قد وصلت الى مأزقها على أرضها بالذات، بعد أن تمت عبادتها والتعامل مع شعاراتها حول التنوير والعقل  والتقدم والحرية والإنسانية، بصورة تقليدية سلفية، بل لاهوتية أصولية. تماماً كما تعامل القدامى من الفلاسفة واللاهوتيين مع عناوين الحق والعدالة والخير والجمال، بوصفها أيقونات مقدسة أو حقائق مطلقة أو ماهيات ثابتة لا يعتريها التبدل أو التغير.وكانت الحصيلة أن استهلكت العناوين وتُرجمت الشعارات بأضدادها، لكي تفاجئ الغرقى في سذاجتهم التنويرية وتهويماتهم الطوباوية.

والمثالات ساطعة: فماركس والماركسيون تعاطوا مع مقولاتهم حول الاشتراكية العلمية والمادية الجدلية، كحقائق متعالية أو كيقينيات مطلقة لا يعتريها خطأ أو نقصان ولا نفاد أو استهلاك؛ تماماً كما يتعامل اللاهوتي مع أقانيمه وعالم الكلام الاسلامي مع أصوله. وكانت الحصيلة قيام أنظمة شمولية انتجت أشكالاً جديدة من القهر والاستبعاد.

بل هذا ما فعله بالذات الفيلسوف نيتشه: لقد تعامل مع أحد كتبه بوصفه “الانجيل الخامس” للبشرية، أي الكتاب الذي  نطق بالحق ، فلا يأتيه الباطل لا من  خلفه ولا من قدامه، وكأنه طرد الله من الباب ليعيده من الشباك. بذلك انقلب نيتشه على نفسه، إذ هو كان أول مفكر أخضع مسألة الحقيقة، كتطابق بين الفكر والواقع، للنقد والتفكيك بفتح مفهومها على معاني المجاز والاستعارة والقوة والجسد، أو على ما هو نسبي ومتعدد أو طارئ ومتغير…

وبالإجمال هذا مآل من يدّعون احتكار الحقيقة وامتلاك الحلول الفردوسية أو النهائية للمشكلات والأزمات: إقامة أنظمة شمولية ودول أمنية أو أحزاب فاشية ومنظمات أصولية إرهابية. والحصيلة مصادرة الحريات والاستيلاء على المقدرات، للقبض على السلطة والبقاء فيها لإنتاج الواقع بشكله الأسوأ، أي استعصاء الأزمات.

الاضطراب العالمي

ومن يتأمل الواقع العالمي، اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة قرون، على انتاج المشروع الحداثي، يجد أن العالم ليس على ما يرام، بل هو ينتقل من أزمة الى أزمة، ومن فضيحة الى فضيحة، ومن كارثة الى كارثة، لكي يصدم كبار المثقفين الذين يتصدرون المشهد الفكري على الساحة العالمية، أمثال نعوم تشومسكي وريجيس دوبريه وجان زيغلر وآلان باديو… مع انه يحمد لدوبريه اعترافه بفشل المشاريع النخبوية التي أنتهت الى “الافلاس”.

هذا ما حصل في السنوات الأخيرة، حيث فوجئ الجميع بظهور الحركات الشعبوية وعودة التيارات العنصرية، التي وصل زعماؤها الى قيادة بلدانهم، عبر استغلال الوسيلة الديموقراطية. وكانت النتيجة أن انقلبوا على تراث التنوير وقيم الحداثة، وتراجعوا عن مبدأ العالمية للتمترس وراء الهوية والسيادة والنزعة القومية الشوفينية. والأسوأ أنهم أخذوا يشككون بالحقائق والمعارف التي تقرها الجامعات ومراكز البحث العلمي، كما نجد النماذج لدى ترامب وبولسونارو وأوربان وناريندرا مودي.

أما في العالم العربي فالأزمة مضاعفة ومتفاقمة، بعد صعود التيارات الاصولية المتعاقبة،  وهي موجات كان قد أسهم في إنشائها أو دعمها واستثمارها دول غربية وعربية، تعمل الان على محاربتها، بعد أن تفشّى فكرها واتسعت سيطرتها واستفحل خطرها، لكي تطيح بالمكتسبات الحضارية للمجتمعات العربية، لكي تفاجئ الدول الغربية بغزوها في عقر دارها، وتفرض قيوداً على حرية التعبير، كما يطالب الان في فرنسا مسلمون متطرفون ، يدعمهم يساريون متطرفون أيضاً، وعلى نحو يخالف شرعة حقوق الانسان التي صدرت منذ قرنين، بعد  اندلاج الثورة الفرنسية 1789.

لنحسن قراءة المجريات. ثمة داء مثلث يفتك بالبشرية:

 الكارثة لجهة العلاقة مع الطبيعة، وهي تقوم على الاستنزاف والتبديد أو التلويث والتخريب.

البربرية لجهة العلاقة بين النظراء والانداد، بل بين الاصدقاء والحلفاء، وهي علاقات محركها ومبناها ومآلها التنافس والتطاحن أو الطعن والخداع أو الصدام والعداء.

العدمية لجهة العلاقة مع القيم والمبادئ، لأن أول من ينتهكها هم حماتها وحراسها بالذات. هذا ما يجعل اللاعب على المسرح يتواطأ مع ضده ولا يصنع الا النماذج التي يدعي محاربتها.

ما هي الدروس المستخلصة بعد هذا التوصيف والتشخيص؟

1- العين النقدية

 التوقف عن ممارسة التأليه والتقديس والتعبد للأسماء والشعارات والاشخاص. فالذي يفكر بصورة منتجة وفعالة، هو الذي يفكر بصورة مستقلة، حرة، بحيث لا يستعبده إسم أو أصل قديم، ولا يستعمره نموذج أو مذهب حديث.

ومن هذا شأنه لا ترهبه السلطات الفكرية ولايقع تحت سيطرة الأسماء الكبيرة. لأنه يملك ما به يكسر الوصاية على عقله: الجرأة الفكرية التي تحمله على قول ما يُمنع قوله، كما يملك العين النقدية التي تمكنه من الدخول إلى تلك المنطقة الملتبسة والمُعتمة، الخارجة عن سيطرة العقل وقبضة المنطق، في كل طرح فكري أو قول فلسفي. وتلك هي إشكالية الخطاب.إنه ليس فقط ما يطرحه ويقرره، بل هو أيضاً وخاصةً محجوباته وطياته.بقدر ما هو فجواته وثغراته. إنه ما يستبعده ويتناساه أو ما يجهله  ويستعصي عليه دركه أو فهمه. وهذه منطقة خصبة قد يُسفر الاشتغال عليها، عبر استثمار المُنجز في الاعمال الفكرية وتسليط الضوء على المأزق، عن فتح آفاقٍ جديدة أو اجتراح مسارات وطرق مختلفة يتجدد معها عالم الفكر.

2- القراءة والحقيقة

يستحيل لأحد القبض على حقيقة الواقع، أو على معنى نص من النصوص. ما بوسعنا القيام به هو تقديم قرائتنا للواقع أو للنص. وكل قراءة هي وجهة نظر لا أكثر، أي مجرد رهان على الفهم والتشخيص أو على التدبير والتقدير. كل قراءة هي رواية للحقيقة يصنع بها صاحبها حقيقته ويلعب لعبته أو يترك أثره وبصمته. هذا ما يفعله من يشتغل في الحقل الفلسفي. فنصوصه وأقواله تشكل هي نفسها واقعة مضافة على سجل الحقيقة تتغير معها علاقتنا بالواقع، وتُعدّ إضافة قيمة على رصيد المعرفة، بقدر ما تخلق مساحتها التداولية على ساحة الفكر. فهي إذاً مجرد إمكانية للتفكير، لا أكثر، نعمل عليها ونستثمرها، بحيث نقرأ فيها ما لم يُقرأ لتجديد القول الفلسفي، منهجاً وعُدّةً.

3- الذاكرة الجيولوجية

الوجه الآخر لكسر منطق القبض هو الاقتناع بأنه لا وجود لحلول فردوسية أو قطائع نهائية مع الماضي. فما جرى من أحداث وتجارب هي وقائع يستحيل إلغاؤها، أكانت نصوصاً أم بنىً وتقاليد، إذ تصبح جزءاً من الذاكرة أو طية من طيات الوعي أو طوراً من أطوار الحياة. بهذا المعنى فالذاكرة البشرية تتشكل على غرار الطبقات الجيولوجية التي تفاجئنا من حيث لا نحتسب بزلازلها وتسوناماتها.

ولذا، فالماضي يفاجئنا دوماً بأنه لا يمضي، بعقلياته وعنصرياته. لأن ما يحدث يستحيل إلغاؤه. الممكن في مواجهته وضعُه، بمؤسساته وبناه ومنظوماته الفكرية، على مشرحة الدرس والتحليل، للعمل عليه بمنطق التحويل الخلاق والتركيب البنّاء أو التجاوز الفعّال. والإّ عاد على النحو الأسوأ والأخطر، كما تفاجئنا أطوارنا البدائية التي ظننا أننا طويناها، أو عصبياتنا التي حسبنا أننا وأدناها أو أبدناها. والا كيف نفسر ظهور الموجات العنصرية بشكلها الشعبوي الجديد، في صميم المجتمعات الغربية الموصوفة بصفات الديموقراطية والليبرالية والمدنية؟ وكيف نفسر بعد قرنين من التحديث العربي، أن تندلع الحروب الأهلية الطائفية التي تمزق عبر بلد عربي؟! كيف نفسر أن بعض اللبنانيين يقدسون زعماءهم، لكي يزدادوا نفوذا وثراء أو فساد وفحشاً!.

4- القطع والقطيع

     الأجدى التوقف عن استخدام لغة القطع والقطائع. فهي تفضي الى انتاج قطعان بشرية، بقدر ما تصدر عن فكر أحادي أصولي يضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما، على ما يقطع الأصوليون على اختلاف نسخهم، وكما تشهد على ذلك شعاراتهم: الاشتراكية أو البربرية، لا حل الا بالإسلام، الوحدة هي الخلاص، الديموقراطية هي الترياق… وهذا أيضاً شأن من يقول: الخيار هو سبينوزا أو اللافلسفة، كما هي حال من يقطع بأن الفلسفة هي “الحل الوحيد” للاستعصاء التاريخي، لكي يشهد بأن الفكر الاصولي يخترقه من حيث لا يحتسب، فيما هو يدعي محاربته. لو كانت هناك قطائع نهائية لما ظهر هتلر بعد كنط، أو جان ماري لوبان بعد إميل زولا ولما أتى بولسونارو بعد لولا داسيلفا ومودي بعد نهرو، ولما صعد سيد قطب والغنوشي بعد قاسم أمين ولطفي السيد وبورقيبة، أو أردوغان بعد كمال أتاتورك.. واللائحة طويلة.

5- كيف نتغير؟

لا أحد يملك مفاتيح الحلول للازمات التي تعصف بمجتمع أو بلد، أو التي تضرب عصراً بكامله، سواء تعلق الأمر بسياسي أو فيلسوف أو نخبة من النخب الثقافية أو الادارية..

بالطبع للمشتغلين في ميادين الفكر عملهم ودورهم: إنتاج معارف ثمينة وقيّمة حول العالم، كما يتجسد ذلك في ما يبتكرونه من المفاهيم الخارقة أو التحليلات الدقيقة والكاشفة، التي تفسر الظواهر وتعقلن التجارب أو تقرأ المجريات وتفكك المشكلات، وعلى النحو الذي يفضح ما تمارسه الخطابات والمؤسسات والسلطات من وجوه الحجب والاقصاء والزيف، أو من أشكال الاحتكار والمصادرة والشعوذة..

ولكن الفلاسفة وعلماء الاجتماع عندما يشتغلون كمصلحين ودعاة لتغيير العالم، فإنهم يغرقون في مثاليتهم بقدر ما يمارسون، عبر نخبويتهم، احتقار الناس بذريعة احتكار الوعي والمعرفة، ويفشلون في مهامهم النضالية بقدر ما يتوقفون عند عصر التنوير للتعلق بثوابته، بعد أن أمست عوائقه التي تنتج مآزقه. بذلك ينكرون التغيرات الهائلة التي طرأت على المشهد العالمي، والتي تغيرت معها مفاهيمنا للمجتمع، كما تغيرت آليات التغيير. لم يعد المهم أن نرفع شعاراً أو نطرح برنامجاً للتغيير. الأهم من ذلك هو أن نعرف كيف نتغير، لأن مفهوم التغيير قد تغير كما تغيرت استراتيجيته.

ومثالي على ذلك يقدمه عالم الاجتماع بيار بورديو الذي كان مجدداً في علم الاجتماع. فمن بين المفاهيم التي ابتكرها مصطلح “رأس المال الرمزي”، الذي تشكل من الاشتغال على الالقاب والشهادات والعلامات التي تصنع الشهرة والوجاهة والمكانة والنجومية … بذلك انفتح مفهوم التمييز على امكاناته وجرى تطويره، بنقله من المجال الاقتصادي أو الهوياتي والعنصري الى المجال الثقافي والاجتماعي. ولكن بورديو عندما فكر كداعية انقلب على نفسه، فوقع في فخ التمييز النخبوي بادعائه بأنه قبض على الحقيقة الاولى والاخيرة في مقاربته للواقع الاجتماعي، كما أنه وقع  في فخ التبسيط في رؤيته للمجتمع وكيفية تغيره.

 6- دعاة التغيير لا يتغيرون

نحن نشهد اليوم تحولات بنيوية أفضت الى ولادة مفاهيم جديدة في مقاربتنا للمجتمع، مثل الفاعل أو اللاعب أو الفعل التواصلي أو العقل التداولي. وبحسب هذه المفاهيم لا يتغير المجتمع وفقاً لخطة مسبقة أو نظرية جاهزة، إنما يغير نفسه بنفسه في مختلف حقوله ومرافقه وفاعلياته. وهذا يعني أولاً أن الأفكار الخصبة والفعالة، إنما تتغير هي نفسها عندما توضع على محك التجربة ، بقدر ما تسهم في تغيير الواقع، وتغيير علاقة من يتداولها  بنفسه وبغيره على السواء.كما يعني ثانياً أن كل فرد منتج أو مبدع، يتحول الى لاعب فاعل يعمل على صنع ذاته بقدر ما بساهم في بناء مجتمعه وعالمه. ومن لا يفعل بصورة إيجابية وبناءة، إنما يفعل بصورة سلبية أو مدمرة.هذا ما يجعلني أذهب الى أن مواطناً عاطلاً عن العمل يؤثّر اليوم بصورة سلبية في حياة الناس، بمن فيهم الفلاسفة، أكثر مما يفعل بصورة ايجابية فيلسوف يقف على برميل أو على منصة ليطرح أفكاره المستهلكة على الجمهور. من هنا قولي ولىّ زمن البطل المنقذ، الذي يفزع منه كثر من المثقفين لأنه يفضح هشاشتهم وفشلهم وجهلهم بمباني أفكارهم ومآلات مشاريعهم.

ومن المفارقات الفاضحة ، أن العالم يتغير والمجتمعات تتغير، ومفهوم التغيير يتغير، إلا النخب الثقافية دعاة التغيير، فإنهم ثابتون على مواقفهم. ولذا تراهم يتراجعون يترجمون الشعارات بأضدادها. ومع ذلك فهم يحسبون أن المشكلة عند غيرهم، فيما هم مصدر المشكلة على المستوى الفكري.

وهذا شان من يحسب أنه يتقدم انطلاقاً من فكرة جاهزة ومسبقة، فإذا به يتخلف، لأن التقدم يعني أن يكون المرء في سبق دائم على نفسه، بحيث يعمل على تطوير عدته الفكرية ، وعلى نحو يتسع معه الامكان الوجودي معرفة وقدرة، كما تتغير شروط الوجود ويتحسن مستوى العيش.

7-التعدد هو الاصل

لا وجود لنظريات شمولية، كلية، يمكن أن تطبّق حيثما كان. كل فكرة خارقة إنما يجري تطويعها وتحويلها، سواء على مستوى قطاع في بلد من البلدان، أو على مستوى وطني في دولة من الدول. والمثال على ذلك تقدمه الديمقراطية التي نحسبها عابرة للأزمان والبلدان. ولكن الديموقراطية ليست مجرد إجراء أو آلية موسمية للإقتراع العام على أساس الاكثرية العددية. وإنما هي صيرورة مفهومها في أتون التجارب، بقدر ما هي صيغة لإدارة الشأن العام والمصلحة المشتركة، على أساس مبدأ التعدد ومنطق التداول وقيم المواطنة وحرية الرأي. ولذا فهي تختلف من عصر الى عصر ، كما تختلف في العصر الواحد من مجتمع الى مجتمع.

وبالإمكان أخذ الاسلام مثالاً آخر . فهو كمبدأ أحادي ومعتقد شمولي، قد انتج الصراعات والحروب أو الانشقاقات والعداوات، شأنه شأن الاديان التوحيدية والنظريات الشمولية. ولكن الاسلام كمشروع حضاري، قد تطور وازدهر بانتهاك بمبادئه، وانفتاحه على قيم التعدد والتداول والتبادل. مما اتاح له استيعاب خلاصة الحضارات السابقة، والافادة من منجزاتها المعرفية والتقنية والادارية.

لنعد النظر فيما نعده بداهات. فالفكرة أو النظرية أو الخطة، هي شاملة أو أحادية أو كلية، فقط في ذهن صاحبها، لأن مصيرها في النهاية أن تخضع، على ارض الواقع الحي والوجود اليومي، للتهجين والتحويل، للتطعيم والترميم، كي تصبح منتجة وفعالة. ولا غرابة، فالتعدد والتبادل والتهجين هو الاصل، وأما الوحدة والمماهاة والهوية، فهي صناعة وتركيب وتحويل.

8-الأرض والسماء

هل المطلوب بعد كل هذه النضالات الفاشلة، خاصة في العالم العربي، “تحرير الأرض من السماء”؟

أعتقد أن فيلسوف المعرة ، يسخر منا عندما يسمع مثل هذه العبارات، هو الذي كان ناقداً شرساً وساخراً للأديان ، والنبوات.إن مشكلة الأرض ما كانت يوماً مع السماء. وإنما هي مشكلة البشر بعضهم مع بعض، هم الذي اخترعوا تلك الصيغة، التي هي في منتهى الذكاء والشيطنة، والتي أتاحت للبشر أن يديروا شؤونهم باستعباد بعضهم البعض والسيطرة بعضهم على بعض، أو قتل بعضهم البعض باسم رب العالمين.

ولكن هذه اللعبة قد انكشفت واحترقت أوراقها، بعد هذه النهايات الكارثية للعمل الديني والنشاط الجهادي. لقد بات من الخداع والتضليل أن يتوارى البشر وراء كائنٍ هو دوماً غائب عن المسرح، لكي ينسبوا له مشاريعهم وشرائعهم، أو يسخّروه لأهوائهم ونزواتهم، أو يتخذوه غطاءً لفضائحهم وكوارثهم.

لنعد الأمور إلى نصابها. ما كانت السماء يوماً، كعالم غيبي رمزي، هي المرجع أو الحاكم أو الغاية، بل مجرد أداة ووسيلة أو مطيّة، إذ الإنسان كان دوماً هو الخالق والصانع أو الحاكم والمتحكم.

كفى شعوذةً وتشبيحاً. فالسماء باتت تضج من نفاقنا وجهلنا وادّعائنا. أما الأرض فإنها تلفظ حممها احتجاجاً على بربريتنا ونزوعنا الى التدمير والتخريب. ولذا ليس المطلوب تحرير الأرض من السماء، بل تحرير الأرض من وحشية الإنسان.

9-الانسان هو المشكلة

      هذه هي المشكلة بعد كل هذه العهود من التعليم الخلقي والتنوير الفلسفي والارشاد الديني. إنها مشكلة الانسان مع نفسه: مع تألهه وغطرسته، مع جشعه وتكالبه، مع تعصبه وتطرفه، مع شراسته وعدوانيته، ومبنى هذا القول : ان الأصل في الواقع البشري ، ليس ما نمجده من المبادئ والمُثُل. وإنما هو الهوى والتعصب والحقد أو الجهل والزيف والاحتكار والمصادرة … إنه حب الحقيقة والعدالة والاخوّة والحرية والسلام ، فهذه القيم هي من الضعف والهشاشة بحيث يسهل انتهاكها ، وتمزيقها.

ولهذا ، فهي محتاجة دوماً الى إعادة البناء، على سبيل التعزيز والتفعيل أو التطوير والتجديد. فحالنا معها كحال سيزيف مع صخرته، كما تروي الأسطورة، كلما وصل بها الى القمة تدحرجت الى الاسفل.

ولبنان ، يُقدّم المثال الفاضح. فبعد قرنين من مشروع النهوض والتنوير والتقدم، كان للبنانيين إسهام بارز في أعماله، تصل الأوضاع فيه إلى الحضيض الأسفل، تدهوراً وتآكلاً وإفلاساً على كل المستويات، بعد أن وقع فريسة طغمة حاكمة يتعلق أهلها بالسلطة على نحو بربري مضاد للقيم المدنية ولقواعد العيش المشترك، بقدر ما يجمعون ما بين حيتان المال وتنانين الارهاب، بين الات الفساد في الداخل وآلهة الخراب من الخارج.

لقد تكالب الجميع على البلد الصغير، قوميّون ويساريون، إسلاميون وعلمانيون. فاستضعفوه واستقووا على أهله وصادروا قراره، لاتخاذه رهينة وساحة لأهدافهم المشبوهة وصراعاتهم المدمرة واستراتيجياتهم القاتلة. ولذا حولوه الى مخزن للصواريخ العابرة ولأسلحة الدمار الشامل، التي زرعت في كل مكان لكي تنتظر من يفجرها. وهذا ما حصل مؤخرا في مرفأ بيروت: شبه انفجار نووي دمّر جزءاً من عاصمة لبنان.

وربما  كان المقصود تدمير بيروت بكاملها وتهجير أهلها، على غرار ما جرى في غير مدينة عربية، وصولاً إلى استسلام اللبنانيين ورضوخهم للأمر الواقع، بحيث يصبح لبنان ملحقاً بمحور دول وأنظمة وأحزاب، شمولية أمنية فاشية، يهتم أصحابها بخلق أعداء في الداخل والخارج ومحاربتهم، ليسجلوا فشلهم فيما تطمح اليه الشعوب من استحقاقات الديموقراطية والتنمية والمعرفة والخدمة.

 وتلك هي الحصيلة بعد عقود من السير وراء شعارات المقاومة والتحرير والوحدة والاشتراكية والممانعة: أن يتخبط لبنان في أزماته ويغرق في بربريته، بعد أن كان النموذج والملاذ والمنبر للعرب ولغير العرب.

لنخفض سقف المقدسات والمتعاليات، ونكسر منطق الاحاديات والاصوليات، للاشتغال بلغة التعدد والتوسط والتداول أو التركيب والتوازن والتكامل…، وبما يمكن أن تسفر عنه التحديات والتحولات ، والازمات من الأطر والقواعد أو الصيغ ، والنماذج.

هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها