ليس لدى الجيل الراهن من الحكام الإيرانيين والأتراك الكثير من الذكريات الجيّدة التي تجعلهم يتحسّرون على أوضاع دول منطقة المشرق العربي. والآن علينا أن نضيف بعد انفجار الصراع الآذري الأرمني منطقة البلقان الغربية.
فالإيرانيون لاعبون جدد في منطقة الهلال الخصيب والمشرق بالمعنى الكامل للكلمة للمرة الأولى منذ ليس أقل من أربعة قرون، ولولا نقاط الضعف الداخلية في دول هذه المنطقة، العراق، سوريا، لبنان، لما أمكن لهم التمدد بالأشكال التي نراها في العقود الأربعة الأخيرة.
أما في القوقاز فكانت مشكلتهم سابقا محاولات التمدد السوفياتي التي بلغت ذروتها في قيامهم بتأسيس جمهورية آذرية على الأرض الإيرانية في الشمال عاشت لمدة عام 1945-1946 وعاصمتها تبريز.. الأتراك أيضا، خصوصا جيل رجب طيب أردوغان لديه في وعيه التاريخي، وفي حاضره الجيوبوليتيكي كل الأعذار المعلنة أو المضمَرة لكي يرى كل دول المشرق ومعها الأردن حصيلة لهزيمة تركيا الشاملة في الحرب العالمية الأولى، وباعتبار نشوء هذه الدول الأربع حصيلة لانتصار تيار تاريخي غربي سبق الحرب العالمية الأولى بسنوات طويلة ونجح في إقامة قواعد فيها.
كيف إذا أعطت خارطة ثروات جديدة فرصة لجعل المشاعر والمصالح تسير في وجهة واحدة!وفي القوقاز فإن وجود الصراع الآذري الأرميني المبكر ما أن بدأ الاتحاد السوفياتي بالتفكك أعاد إحياء الحساسيات القومية في تلك المنطقة وبالتالي وصل أردوغان إلى السلطة ولديه كل الأوراق التي تتيح له لعب دور جيوسياسي هناك. قد لا يختصر تعبير “نقاط ضعف” الاستراتيجيةَ الإيرانيةَ في العراق وسوريا ولبنان لأن حضورها في هذه الدول هو حصيلة مركّبة لاندفاعات أيديولوجية ومذهبية وعسكرية وسياسية، لكن كل هذه المواصفات في لغة المكيافيلية الدولية هي عمليا نقاط الضعف القابلة للتحوّل إلى نقاطِ قوةِ الجهةِ المندفعة وهي هنا الجهة الإقليمية التي يقودها نظام يتقن التعبئة المذهبية، فإذا بالجماعات الشيعية العربية تتحوّل إلى مراكز نفوذ إيرانية غاية في القابلية المعنوية والمادية للاستثمار السياسي الناجح.
لهذا لا نفوذ إيرانيا في منطقتنا من دون حروب أهلية أو نزاعات أهلية تتحول إلى حروب أهلية.الأتراك لديهم وضع كالتالي: يصل الجيل الإسلامي الأصولي الذي يدير تركيا الحالية متأخرا للدخول في لعبة التفتيت. كانت تركيا السابقة لتركيا الإخوان المسلمين دولة تعطي ظهرها لمنطقة المشرق كأحد ثوابت تركيبها الأتاتوركي. لولا الصلة بدول النفط لكان تاريخ العلاقات العربية التركية قبل وصول “حزب العدالة والتنمية” إلى السلطة في مطلع الألفية الثالثة يُختصر بعلاقات ديبلوماسية باردة على الإجمال.
والمفارقة الثابتة في التحولات التركية والمتفق عليها لدى معظم الباحثين الغربييين أن أموال البترودولار التي تدفّقت على تركيا في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم عبر العمال والموظفين الأتراك والمساعدات الرسمية من دول الخليج من جهة، وعبر الشركات التركية العاملة هناك لعبت دورا حاسما في تنشيط التيار الإسلامي الأصولي في الحياة السياسية التركية من جهة ثانية. هذه وقائع بات يندم عليها معظم قادة الخليج حاليا. فَتَح الانفجارُ السوري قبل حوالي عشر سنوات شهيّةَ الجيلِ الجديد الحاكم في أنقرة على “كنوز” الحروبِ الأهليّة، فكان الكنزُ الأولُ مدينةَ حلب بالمعنى الحرفي للكلمة حيث راحت الماكينة التركية تحصد هياكل المصانع والمانيفاكتورات الكثيرة في المدينة العريقة ومعها دخول لا زال متواصلاً على منطقة يمتد عرضها ثمانمائة كيلومتر معظمها تعيش فيها جماعاتٌ كردية سورية داعمة بشكل وثيق للمسلّحين الأكراد داخل تركيا.
صار ضبط المسألة الكردية برمتها في نظر المخطِّطِين في أنقرة يعتمد على التواجد العسكري التركي بين عفرين والقامشلي. هناك الكثير من الأسباب التي تدعو للاعتقاد أن الجسر الليبي للنفوذ التركي لا مستقبل له بعكس الجسر السوري للأتراك. فتركيا فعلا بعيدة عن ليبيا بينما القوى الأخرى، إيطاليا على مسافة كيلومترات قليلة بحرية( الاكتشاف الكبير للغاز المصري حقّقته شركة إيطالية) وفرنسا تحكم تشاد ومالي والنيجر مما يعطيها حدودا برية شاسعة مع ليبيا خصوصا مع تواجد الجيش الفرنسي الفعال والكثيف في مالي تحديدا. ثم طبعا مصر الحاضرة تاريخيا وجغرافيا في الشرق الليبي. الصراع على مصادر الغاز البحري أعاد خلط الأوراق وجعل شرق البحر الأبيض المتوسط ساحات لتركيز مصالح كبيرة أو هي في طور التركيز.
إنما تركيا تبدو معزولة (شرقْ) متوسطيّاً أمام تحالف غاز مصري يوناني إيطالي فرنسي مدعوم من الإمارات. دول الخليج مَنعتْ توسُّلَ الإيرانيين الأوضاعَ الداخلية لبعض بلدانها لبناء نفوذ كان سيعني لو حصل ليس إلا حروبا أهلية جديدة في العالم العربي.وظيفة هذا المقال تأكيد فكرة أساسية هي أن ما يمكن تسميته البسيكولوجيا السياسية لصانع القرار الإيراني وكذلك تلك التي للجيل الحالي من صنّاع القرار التركي لا تعنيها كثيرا مسألة تماسك دول المشرق، الأول ينظر إليها كمجرد مسرح نفوذ والثاني كمساحة مسلوبة.
بهذا المعنى يتيح ذلك لهما نوعاً من التجاذب مع إسرائيل لا يعطي أولوية لفكرة الاستقرار. الآن مع التوصل لاتفاق إطار للتفاوض المباشر بين إسرائيل ولبنان والشروع في تنفيذه، ربما بدأ الإيرانيون مرغَمين تحت طائلة الشعور بالخطر من ضربة إسرائيلية تطيح بمكتسباتهم الأمنية والسياسية في لبنان ب “لعبة استقرار” جزئية لتسهيل الاستثمار الإسرائيلي للغاز من جهة، ولتسهيل حصول لبنان على مداخيل من الغاز من جهة مقابلة بعدما تداعت الدولة اللبنانية أو شارفت على التداعي بما يجعل كامل النظام السياسي الذي يستفيد من آلياته الإيرانيون يكاد يسقط ومن ضمنه القوى الشيعية اللبنانية التابعة لهم.
الدولة الأمة الإيرانية والدولة الأمة التركية تحيطان بالمنطقة بما يجعل جزءا حساسا وثريا من العالم العربي يتطلع إلى إسرائيل كعنصر توازن مع الدولتين الأمتين. هذا أيضا عنصر جديد تماما في واقع منطقة يعاد تأسيس جغرافيتها السياسية.بدل أن تجعل الأيديولوجيا الكثيفة للحضور الإيراني في المنطقة الصراعَ العقائديَّ محموماً، إذا باللعب الجيوبوليتيكي المتعدد الأطراف يوجد حالة من الواقعية السياسية الضد أيديولوجية لعلها ستكون السمة الرئيسية الناشئة في المنطقة. كان يمكن لهذه التحولات أن تترافق مع حركة إنصاف وإنقاذ للشعب الفلسطيني، غير ان ازدياد النزعة العنصرية لليمين الإسرائيلي يدفع المسار في اتجاه معاكس إذا لم يفرض الغرب حدا أدنى عادلا لحل فلسطيني.ما يُؤْخَذ على جوهر السلوكَيْن الإيراني والتركي في المنطقة، هو عدمُ إيلاءِ فكرةِ الاستقرارِ الكياني الأهميةَ التي تستحقها بوجود قوة عسكرية واقتصادية متماسكة ومتأصِّلة غربياً هي إسرائيل القادرة على فرض وقائع أكبر من قدرة إيران وتركيا معاً على تعديلها، خصوصاً أنهما جزء من وضع إقليمي تستمر فيه إسرائيل بتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني.
ولا شك أن مسؤولية العجز عن دعم كافٍ للفلسطينيين لم يعد جائزا تحميلها للوضع العربي وحده وإنما باتت إيران وتركيا جزءا من هذا العجز وإلا ما معنى أن يكون الشعار الفلسطيني مدخلا أساسيًا لطهران وأنقرة إلى لعب دور في المنطقة عبر الاستخدامات المختلفة له ولا تكونان مسؤولتَيْن تماما ومشاركتَيْن في العجز المنسوب تقليديا للوضع العربي وبالتالي تبعات هذه المسؤولية؟!من المفهوم لكيان مثل الكيان الإسرائيلي أن لا يتلاءم مع البنى التوحيدية في دول المشرق وأن يعمل على تفتيتها حيث يستطيع، لكنّ دولتين متجذِّرتَيْن في تركيب المنطقة كإيران وتركيا لم تنتهجا سياسة مطمئنة للجوار القلِق غربَ الأولى وجنوب الثانية، فَفَهِمتا، كلاهما، الواقعَ الجغرافيَّ السياسيَّ على أنه فرصة لتغيير معطيات قديمة.
عودة إيران وتركيا لبناء استراتيجيتي حفاظ على استقرار خرائط المنطقة مسألة مطلوبة الآن بإلحاح. وسيكون التاريخ قد أكمل دورته العجيبة في الشرق الأوسط إذا تبيّن أن كياناً مصطنعاً في المنطقة هو إسرائيل سبقهما إلى رفع شعار أولوية الاستقرار وبدأ التطبيق في سوريا محتفظاً بكل ما نَهَبَ من جغرافية كيانها ومحتفظا من الجو بإطلاق القنابل والصواريخ على من يشاء.تنهش إسرائيلُ كالعادة البنيةَ الفلسطينية من داخلها. و تغيير البسيكولوجيا الحاكمة في تركيا وإيران التي لا تعنى بالاستقرار هو ضرورة في مقدمة ضرورات التغيير المنشود لتستقر العلاقات العربية معهما.
“النهار”اللبنانية