aren

امريكا تؤرخ لحياة “إدوارد سعيد”
الخميس - 15 - يوليو - 2021

التجدد – واشنطن

يبدو أن هذا الكتاب الأمريكي، وتعليقات أمريكيين عليه، لم يكتشفوا بعد “إدوارد سعيد”، الحقيقي. طافت روح سعيد العميقة الجذور، بدءًا من القدس، مروراً بالقاهرة، وبيروت، وفوق العالمين العربي والإسلامي، قبل أن تصل إلى الولايات المتحدة. وأثبتت أنها أكبر، وأكثر ديمومة، من محتويات الكتاب، ومن التعليقات عليها.

وصف أمريكيون ، سعيد ، بأنه «باحث متعدد اللغات، معروف بقيادته الندوات النظرية، وهو يرتدى بدلات سافيل رو». وأنه «مدافع عن التأثيرات الدرامية للأدب على السياسة والحياة المدنية». وأنه «مثقف استراتيجي نيويوركي مداهن».

سعيد وأخته عام 1940

لكن، على الأقل، حاول مؤلف الكتاب ، فهم (سعيد) الحقيقي.

كان (تيموثي) برينان، مؤلف كتاب «أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد»، تلميذًا وصديقًا لسعيد. وهو الآن أستاذ في جامعة (مينيسوتا). ومؤلف كتب فلسفية، منها: «العالم في منزل: كوزموبوليتانية الحاضر»،و«حروب المواقف: السياسة الثقافية لليسار واليمين»،و«سلمان رشدي والعالم الثالث: أساطير الأمة».

استفاد المؤلف من علاقته بسعيد، وعائلته، وأصدقائه. واستفاد من دفاتر محاضرات سعيد التي تعود إلى السبعينيات. واستفاد من آراء بعض نقاد سعيد. واستفاد من الملفات السرية لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي).

يجب أن لا يفاجأ أحد ، بأن شرطة «إف بي آي»، تجسست على سعيد . كان يكفي، قبل وقت طويل من ظهوره كشخصية وطنية ودولية، مجرد أنه طالب عربي انتقد إسرائيل. كان ذلك حتى قبل أن يصير أستاذا في جامعة كولومبيا (في نيويورك) عام 1962. لكن المؤلف، وأميركيين آخرين، حاولوا إنصاف سعيد.

يكتب المؤلف: «وجدت نشاطات سعيد السياسية أساسا لها في النقد الأدبي». هذه إشارة إلى ترجمة، وتحرير سعيد ، وثائق الحركة الفلسطينية خلال السبعينيات، والثمانينيات، بما في ذلك أول خطاب ألقاه ياسر عرفات أمام الأمم المتحدة عام 1974.

أيضا، كتب أمريكيون آخرون عن سعيد أنه «مدافع لا يكل عن الحقوق الفلسطينية». و«المثقف الفلسطيني الأكثر تأثيرا، وإثارة للجدل، والأكثر شهرة في القرن العشرين». وأن «كتاباته، التي حطمت الحدود المرسومة للأكاديميين الغربيين، فتحت الأبواب لجيل جديد من الأكاديميين غير البيض. وفتحت وعيا جديدا عن مرحلة ما بعد الاستعمار».

يتتبع الكتاب حياة سعيد من القدس إلى جامعة كولومبيا، مع اهتمام كبير بحملته السياسية والفكرية من أجل الفلسطينيين، والعرب، والمسلمين. نعم «المسلمين»، ذلك لأنه، وهو المسيحي، كتب في عام 1981 ، كتاب «تغطية الإسلام: كيف يحدد الإعلام والخبراء الأمريكيون نظرتنا إلى العالم».

لكن، كانت أكثر كتابات سعيد السياسية عن جبهة التحرير الفلسطينية، وياسر عرفات، واتفاقية أوسلو (1993، عن الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة وغزة). أوضحت كتابات سعيد علاقته الوثيقة مع عرفات. ثم أوضحت العداء بينهما. ليس فقط بسبب تعقيدات المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، ولكن، أيضًا، بسبب تعقيدات الخلافات وسط الفلسطينيين أنفسهم.

سعيد، نفسه، تحول من رأي إلى رأي:

أولا، مثل عرفات، أيد حل الدولتين.

ثانيًا، عكس عرفات، عارض اتفاقية أوسلو.

ثالثًا، في نهاية حياته، دعا إلى حل الدولة الواحدة.

لكن، رغم هذه التحولات، يمكن وصف سعيد بأنه كان الرائد. (مؤخرا، تخلى قادة فلسطينيون عن حل الدولتين، ودعوا إلى حل الدولة الواحدة). كان سعيد «مقاتلًا في المنفى»، وبعيدا عن فلسطين نفسها. وعرفات نفسه، في لحظة غضب، قارن الحياة في نيويورك بالحياة في غزة. وقارن بين كوفيته وبدلات سعيد الأنيقة.

يقدم الكتاب سعيد ، بأنه واقعي وعلماني. يعني هذا أنه لم يكن حالمًا عاطفيًا، ولا متدينا جهاديا. بل تحدث سعيد عن «انتصار شبه كامل للصهيونية»، وبدا أنه فقد الأمل عندما عاد إلى الولايات المتحدة من الضفة الغربية، وكتب عن المستوطنات التي لا نهاية لها، وعن الطرق السريعة المبنية بشكل استراتيجي (لاحتلال دائم).

سعيد وعائلته مع (الرئيس السابق) اوباما وعائلته

ينظر الكتاب إلى سعيد على أنه فيلسوف ، أكثر منه سياسيا. وناقد للغرب أكثر منه مدافعا عن فلسطين. فعلا، انطلق سعيد من أصل كل شرور الغرب، من الرأسمالية التي أدت إلى الاستعمار، الذي أدى إلى الإمبريالية، التي تعاونت مع الصهيونية لتأسيس إسرائيل. يعني ذلك أن إسرائيل صارت نتيجة ثانوية للشر الغربي الأكبر.

تحدى كتاب سعيد التاريخي، «الاستشراق»(صدر عام 1978) ، أسس الثقافة الغربية، والتي كانت، هي نفسها، نتيجة ثانوية لاستعمار الغرب، وعنصريته. وحسب كتاب برينان، فإن سعيد «أعاد إحياء العادات القديمة بقراءة الكتب حسب زمانها ومكانها. وصارت هذه العادة جزءا من حجته بأن ما حدث في الماضي ليس غامضًا بشكل ميؤوس منه، ولكن يمكن استرداده من خلال تفسيره».

كرر سعيد أن بحث الشخص عن الإنصاف والعدالة في الماضي أفضل من إحساس الشخص بأنه ضحية. وكتب:«أسفا، لا يقدم الإحساس بالضحية مساهمة كبيرة للإنسانية.  إنه إحساس سلبي. نعم، يجب الاطلاع على ظلم الماضي، لكن، لا يكفي ذلك إلا إذا تحول ظلم الماضي إلى عملية فكرية تشمل جميع الذين يعانون من الظلم». كما قال الكتاب. ويبدو أن سعيد صار «ضحية نبوغه». لكنه «عاش في عذاب».

ربما ما كان عليه أن يصبح سياسيًا فلسطينيًا يجادل ياسر عرفات، وجورج حبش، ونايف حواتمة، وغيرهم. وربما كان عليه أن يحصر نفسه في أن يكون فيلسوفًا عالميًا، وتاريخيًا. خاصة أن الأحداث أثبتت أن الفلسطينيين لا يتفقون على الخطوة التالية. في الحقيقة، سعيد نفسه، كما في الكتاب، لم يكن متأكدا من الخطوة التالية. بل أثار معارضات من داخل عائلته لأنه تعاون مع إسرائيليين.

شارك سعيد مع دانيال (بارنبويم) في تأسيس أوركسترا موسيقية لجمع الموسيقيين الشباب العرب والإسرائيليين. لكن «انتقده بعض أفراد عائلته»، كما كتب صديقه مؤلف الكتاب.

في عام 1980، كنت صحافيًا عربيًا جديدًا في واشنطن، عندما أجريت أول مقابلة مع سعيد، (تبعتها مقابلات أخرى على مر السنوات). وبقدر ما فوجئت بمجرد وجود مدافع قوي عن القضايا العربية والإسلامية في الولايات المتحدة في ذلك الوقت البعيد، فوجئ سعيد بمجرد وجود وسائل إعلام عربية وإسلامية في الولايات المتحدة.

في نهاية المقابلة الأولى، وضع يده على كتفي وقال: «نتعاون».

غرباء في أرض غريبة، لكنهم صمدوا.

كتاب: «أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد»

المؤلف: تيموثي برينان

الناشر: فارارا، نيويورك

صفحات الطبعة الورقية: 492