
وصف طبيب وجراح لبناني هو الدكتور نبيل فليحان الاختصاصي بجراحة الأذن والتجميل في مركز كليمنصو الطبي في بيروت، في مقال له، وصف لبنان بأنه بلد مهدد بالانقراض وَوَضَعَهُ مستعيرا تعبيراً علميا في خانة “الأنواع الحضارية المهددة بالانقراض” (Endangered Cultural Species).
ربما كان الطبيب الجراح الآن أكثر تفاؤلا أو أقل تشاؤما لكن فكرة “انقراض النوع” وهي فكرة تشكّل أحد العناصر الأكثر تراجيدية لدى العلماء أينما كان في النظر إلى الأخطار التي تهدد البيئة الحياتية للكرة الأرضية، هذه الفكرة إذن هي فكرة صالحة بل تجديدية في النظر إلى البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية لبعض البلدان. ولبنان في المقدمة.
ربما لم يكن المستعمِر الفرنسي وهو ينظر إلى مصالحه في تلك السنوات العشرية من القرن العشرين يتوقّع أنه سيقيم دولة تحمل كل هذا التنوع الرائع والمأساوي معاً، لكن ما يُسجّل له هو أنه منذ القرن السابع عشر ركّز تدريجيا على شبكة من المدارس لم تنتج نخبة فرانكوفونية فحسب بل جرّت معها إلى التنافس شبكات إرسالية أميركية وروسية وإيطالية وألمانية حتى لكأن “لبنان الكبير” الفرنسي وُلِد خلافاً لأي دولة في العالم، أو على الأقل أكثر من أي دولة في العالم، من شبكة تعليم ابتدائي وثانوي وجامعي. لم تكن الحواضر السورية بعيدة عن هذا الانتشارالتعليمي الفرنسي ولكن تحولات الحياة السياسية في سوريا الانتداب وما بعده جعلت لبنان هو الوحيد القادر على الاحتفاظ بهذا المكوِّن التعليمي الطليعي.
الانحطاط الراهن في لبنان له مصدران متناقضان و”متكاملان” إذا جاز التعبير : من جهة الفساد المريع لمنظومته السياسية المتعددة الطوائف والذي جعلها مترهلةً في كل أطرافها الدولتية المسلمة والمسيحية، ومن جهة ثانية العبء الهائل البنيوي للمشروع الإيراني في لبنان والمنطقة على طاقة احتمال الدولة اللبنانية. بل والمجتمع اللبناني.
الانحطاط اللبناني بدأ تاريخيا مع حجم الضغط الذي ولّدته عليه المسألة الفلسطينية الواقعة هي نفسها تحت الضغط الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي والذي، هذا الانحطاط، انعكس في حرب أهلية أخذ جيلٌ جديد من قادة الموارنة يبرز خلالها ويجسِّد، هذا الجيل، تراجعاً في المستوى الثقافي والمدني والأخلاقي عن الجيل المسيحي الأسبق ونخبه وتواكب ذلك مع بدء مسار تراجع موازٍ في تركيبة القيادات في الشارع المسلم. ولم نعد إلى “الوراء”، الوراء النوعي سياسياً منذ ذلك الحين. الوراء صار يوتوبيا سياسية جميلة. لكنها ليست يوتوبيا ميتة بوجود الجامعات الكبرى وشبكات المدارس والمشافي والصحافة ووسائل الإعلام بما فيها الأكثر حداثة على الانترنت ولكنّ درجة الانحطاط اللبناني باتت تمس بمصير كل هذه البنى المتقدمة داخله والتي كانت قابلةً أكثر للتقدم.
لبنان أسير الصراع الإقليمي الدولي مرة أخرى. إسرائيل تزداد قوة عسكرية واقتصادية وعلمية ولكنها في الوقت نفسه تزداد تجاهلاً لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يكاد يدخل مرة جديدة حالة من اليأس تدفعه أو تدفع جزءًا منه نحو أيديولوجية عدمية أصولية.
الآن نفوذ الدولة – الأمة الإيرانية بقيادة رجال الدين في ذروته الجيو سياسية ولكنه على القمة الفاصلة عن الهاوية بسبب التدهور الاقتصادي للدولة مما يجعل قدرته على مواجهة العالم الغربي عند طاقتها القصوى التي يبدو من الصعب أن تستمر طويلا حتى لو انخرطت إيران في تحالف استراتيجي مع الصين وروسيا في عالم يهيمن عليه الاقتصاد ويجري اعتبار الاقتصاد الروسي فيه أصغر من اقتصادات كل من إيطاليا وكندا والبرازيل كما كتب باراك أوباما في كتابه الأخير “الأرض الموعودة”رغم الأهمية العسكرية لروسيا. وإذا كان الإسلام الأصولي السني يأخذ العديد من دول الأكثرية السنية نحو استنزافات داخلية وخارجية مضنية فإن الإسلام الأصولي الشيعي يقيم مؤسسة حكم “مغتربة” عن العالم ولها مشاكل عميقة في عدم التكيف مع “حقائق العصر”. هذا رأي العديد من المثقفين الإيرانيين لا في الدياسبورا بل أيضا في الداخل.
بدأ منذ فترة استخدام تعبير “زومبي” ( الميت الحي) في وصف النظام السياسي اللبناني لدى بعض الشباب الناشطين في الشأن العام. لكن علينا عدم الاستخفاف بالطاقة “الزومبية” لهذا النظام على مقاومة الموت النهائي بل الانتصار على موته ولو بثمن حرب أهلية أو انهيار شامل. هو نظام يُحْكِم قبضته على لبنان. التحول الأساسي الذي أحدثته ثورة 17 تشرين في الوعي السياسي أنها ضربت قبضة قوى النظام على المتخيَّل السياسي ل”لبنان الجميل”. صحيح أن التغيير مهدّد بعمق إلى درجة اليأس بعدما انكشف تحالف الأمر الواقع، تحالف الأعداء الداخليين، لحماية النظام، لكن على الأقل حصل سقوط بل إسقاط أخلاقي غير مسبوق. صار “لبنان البشع” مرتبطا بصورة نمط محدّد ومُجرّب وجربان من الحياة السياسية.
“النهار”اللبنانية