(خاص)
التجدد الاخباري

الذئب الجهادي
لا يستطيع الكاتب أن يصمت أو يتوقف عن الكتابة، فيما القلق ينتابه على المصير المجهول، وفيما الازمات تضرب بلده من كل جانب، وفيما العالم يفاجئه بما لم يكن متوقعاً ولا منتظراً. ولكني لا أنشر كل ما أكتبه، نظراً لأن ظروف النشر صارت أصعب وأعسر، بعد تراجع الصحافة وتفشي الوباء.
غير أنني آثرت نشر هذه المقالة عن العلاقة بين “العرب وإيران”، وهي من جزأين: الاول يتناول المشروع العربي القديم، ذا الاصل الديني والجذر النبوي، والثاني يتناول المشروع الايراني الراهن، بمرتكزه الثقافي، وبعده الاستراتيجي.
والذي حملني على نشر مقالتي ، هو حدث هزّ فرنسا ، والعالم مؤخراً: ذبح أستاذ فرنسي على يد ذئب جهادي لاجئ الى فرنسا. لاعتقادي بأن هذا الحدث يندرج في المشروع النبوي، الذي هو كأي معتقد ديني توحيدي أو نظام ايديولوجي أحادي، إنما مبرر قيامه هو استخدام العنف، سواء على المستوى الرمزي أو المادي.
النقد الفعال
منطلقي في مقالتي أن العلاقة بين إيران والعرب، ليست سليمة أو صحية. ولم تكن يوماً كذلك، لا في الماضي ولا في الحاضر. بل كانت علاقة مخاتلة، ملتبسة، متوترة، تلغّمها إرادة الصراع ومشاريع الهيمنة.
وما أحاوله هنا هو وضع هذه العلاقة على مشرحة النقد والتحليل، لتعرية ما تُبنى عليه أو تحجبه من العقائد والأساطير، أو من العقد والحساسيات، أو من التهويمات والشعوذات.
والنقد الفعال لا يقتصر، في تناوله للمشاريع والدعوات، على التطبيقات أو على المسائل الفرعية والثانوية، وإنما يطال المبادىء والاصول أو الثوابت، وكل ما يعمل على تقديسه وتنزيهه، أي تحييده من عمل النقد، أصحاب المشاريع الايديولوجية، من إسلاميين وماركسيين وقوميين، فيما هو أساس المشكلة ومصدر العلة. ولذا يتحول النقد عندهم الى مجرد تلفيق أو تضليل، لكي يعيد إنتاج الواقع المُراد إصلاحه أو تغييره، على النحو الأسوأ والأرهب والأخطر.
الجزء الاول
الفتوحات العربية
أبدا مراجعتي النقدية بالجانب العربي، بتقديم مقاربة لا تأخذ بالرواية العربية. ومعلوم أن العرب قدموا أنفسهم الى العالم، بعد انفجار الحدث القرآني، بوصفهم أصحاب دعوة دينية هي نسخة جديدة من الديانة التوحيدية، تستعيد التعاليم اليهودية والمسيحية، على سبيل الاعتراف والاستكمال أو النقد والتجاوز. هذه الدعوة، التي أطلق عليها القرآن اسم الإسلام، إنما منطوقها أن الأمر وحي وتنزيل من رب العالمين، على رسوله وعبده محمد بن عبد الله، من أجل هداية البشر أجمعين الى الصراط المستقيم.
ولكن، إذا حاولنا اختراق منطوق الخطاب وظاهر النص، نحو طيّات الفكر ومحركات الوعي، نجد بأن العرب لم يكونوا مجرد دعاةٍ إلى الله وإلى العمل الصالح، بل كانوا أصحاب مشروع إيديولوجي سياسي، من أجل السيطرة على العقول وقود الشعوب.
وكانت الثمرة لمثل هذا المشروع، الذي زعزع الاوضاع في شبه الجزيرة العربية، وغيّر خريطة المنطقة والعالم، فتح إيران واستعمارها، لغةً وعقيدةً، باسم الله والقرآن، مع بقية البلدان غير العربية التي دخلت في الدين الجديد.
ليعترف العرب بما صنعوه: لقد استعمروا العالم بفتوحاتهم الفكرية والعسكرية، فأقاموا أمبرياليات مالية وأمبراطوريات للجواري كانت فردوساً، قبل اليوم الموعود، بالنسبة للخلفاء والأمراء وقادة الجيوش وللطبقات العليا من المجتمعات الاسلامية، فيما كانت كدرا وبؤساً وجحيما بالنسبة للطبقات الدنيا والمسحوقة، ممن يسميهم القرآن المستضعفين في الأرض.
الجرثومة الأصولية
قد يصدم هذا الرأي الغارقين في غيبوبتهم الروحانية، ومن ختم التعصب الاعمى والتعبد للسلف على عقولهم وعلى بصائرهم.
ولكن الواقع هو الذي يصدم بمآلاته البائسة ونهاياته الكارثية. فالعالم العربي هو اليوم في أسوأ أحواله تردياً وتمزقاً وتوحشاً، بعد أن أصبح العرب نشازاً في هذا العالم، قياساً على بقية الأمم والشعوب. ومكمن العلة أن ما يحسبونه الحل هو العقدة المستعصية، بل الجرثومة الفتاكة: اعتقادهم بأنهم أصحاب كتاب ينطوي على العلم بكل شيء، ويصلح لكل زمان ومكان، لأنه نطق بالحقيقة المطلقة والنهائية.
وهذا الايمان بالغيب، كون الله الغائب دوماً لا يحضر الا عبر مخلوقاته، وجهه الاخر هو الايمان بالشاهد الذي يحل في النهاية محل الغائب، أي كون النبي العربي، الذي اصطفاه الله ليختم رسائله الى العالم، هو سيد الخلق الذي لا ينطق إلا بالحق، وكل ما خالف أو ناقض ما أتى به يعّد باطلاً أو مزيفاً.
صحيح أن هذا الاعتقاد وقف وراء صعود العرب، وتصدّرهم العمل الحضاري والانتاج المعرفي لقرون طوال، ولكن ذلك لا يعني أنهم كانوا مجرد عبيد تقدّس اسم الله وتسّبح بحمده أو تصدع لأوامره. ما كانوا مجرد آلات تتلقى التعاليم أو تنفذ الأحكام والشرائع. هذا جهل بذات النفس وتمويه للحقيقة أو طمس للوقائع والحوادث. ذلك أن العرب، سواء في زمن النبي أو بعده، إنما كانوا يعيشون الحياة بقضها وقضيضها، ويمارسون حيوتيهم الوجودية بكل أبعادها المعرفية والسلطوية أو الخلقية والعشقية، من وراء الغلاف الرقيق لدعوى النبوة والرسالة والهداية، وهو غلاف كان من السهل تمزيقه تحت وطأة الرغبات والنزوات أو تحت ضغط الاهواء والعصيبات.
هذا ما يكشفه تحليل المعطيات من الاحداث والتجارب أو المؤسسات والخطابات. ومن غير وجه، وعلى غير مستوى:
حيل العقل
وبالتوقف على مستوى العلوم والمعارف، بالوسع التمييز بين اتجاهين فكريين كبيرين، كانا محل جدلٍ وتضارب، بقدر ما كانا محل تقاطعٍ وتفاعل.
الاتجاه الأول وقد تمثّل بالانفتاح على علوم الأوائل التي سميت العلوم العقلية، نظراً لأن أساسها ومبناها المشاهدة والتجربة أو البراهين والأدلّة، على هذا المستوى أفاد العرب إفادةً جلّى من منجزات الحضارات السابقة، من فارسية وهندية وصينية، وأفادوا بشكل خاص من الحضارة اليونانية، لجهة القضايا الفلسفية والادوات المنطقية. بهذا المعنى كانت الحضارة العربية الاسلامية حضارة عالمية أسهمت في ازدهارها كل الشعوب التي احتك بها العرب وتفاعلوا معها. تجدر الاشارة هنا الى السريان الذين لعبوا دور الوسيط بين الفكر اليوناني واللغة العربية.
أما الاتجاه الثاني فقد تمثّل في ما سمّوه العلوم النقلية، كونها انبنت على النص القرآني أو على الحديث النبوي. ولكن من التبسيط والخداع أن تُسمّى نقلية، لأن العقل كان حاضراً فيها وشغالاً على غير مستوى.
هناك على مستوى أول العلماء الذين تبنّوا مشروع الوحي الالهي وصادقوا عليه، أو رضخوا لقوة الامر الواقع. فهم لم يكونوا مجرد رواة أو نقلة، بل أعملوا عقولهم في النص تفسيراً وتأويلاً أو ترجمة وتحويلاً، بالاستناد الى ما أفادوه من العقائد القديمة أو من فلسفة اليونان ومنطقهم، أو بما اجتهدوا فيه من أصول البحث وقواعد الدرس. مما أتاح لهم أن يقرأوا ما لم يُقرأ في خطاب الوحي، بمعنى أنهم قدموا له قراءات خصبة وفعالة، مبتكرة وغير مسبوقة.
وكانت الحصيلة افتتاح فروع معرفية جديدة، كالفقه وأصوله، أو التفسير وأصوله، أو الكلام وفلسفته، وهي فروع عقلية بمناهجها ومناقشاتها ونتائجها. وقد وصل ببعضهم النقاش الحر والجدل العقلي الى الكشف عن تناقضات النص وعبث الأطروحة اللاهوتية، كما نجد لدى أثمة المعتزلة كالنظام. الامر الذي يحملنا على اعادة تعريف مصطلح النقل. فالنقل أساسه عقل يجهل نفسه أو يحجب عمله، تماماً كما أن العقل عندما يتحول الى سلطة يرتد على نفسه لكي يصبح مجرد نقل أو تقليد.
على المستوى الثاني هناك الفريق الذي لم يقتنع أصحابه أساساً بالمشروع النبوي، أو عارضوه، من الفلاسفة والعلماء والادباء، كالفارابي وابن رشد وابن عربي والرازي وابن الرواندي. فقد أمعن هؤلاء في قراءة نص الوحي، على سبيل التشريح والتشكيك أو التفكيك. والحصيلة هي إضافات قيّمة اغتنى معها عالم المعرفة وتجدّد في ميادين الفلسفة والاخلاق والتاريخ واللغة والتصوف…
ولا شك أن ابا العلاء المعري ، يأتي في صدارة من عارضوا المشروع النبوي، من بين أصحاب الموقف النقدي التنويري، وهو القائل:
ولا تحسب مقال الرُسل حقاً
ولكن قول زُور سطّروهُ
وكان الناس في عيش رغيد
فجاؤوا بالمُحال فكدّروهُ
ديموقراطية الشرك
وأعتقد أن المعري كان أكثر حداثةً وعقلانيةً من كثيرين من دعاة التنوير والتقدم من العرب المعاصرين.
والوجه الاهم في نقده ، هو اتهام الانبياء وأصحاب الدعوات ببث العداوة بين الناس. بهذا المعنى كانت عبادة الاصنام أقل كلفة على البشرية من عبادة الاله الواحد الأحد. لأن الاولى ترافقت مع المروءة، وكانت تقضي بأن ينزل الفارس عن فرسه، إذا كان خصمه راجلاً حتى يكون بينهما تكافؤ وتعادل، كما فعل عمرو بن ودّ العامري، قبل أن تبدأ المبارزة بينه وبين عليّ بن أبي طالب.
والمثال الاخر ، تقدمه المرأة العربية التي كان بوسعها، حتى في صدر الاسلام، أن تمارس حريتها واستقلاليتها، فتطلب الانفصال عن زوجها، لأن قواعد المروءة الجاهلية تقضي بأن لا يبيت الرجل، ليلة واحدة، مع زوجه تحت سقف واحد، اذا لم تعد راغبة فيه. لكن، بعد أن حلت الشريعة محل المروءة، تمت الوصاية على المرأة، بحجبها وعزلها والحجر عليها، بوصفها ناقصة عقل وحظ وإيمان.
هذا، وإن عبادة الاصنام، بوصفها شركاً وكفراً، قد أثمرت التعدد والشراكة في إدارة الشأن العام في المدينة الجاهلية، كما أثمر تعدد الالهة لدى اليونان ولادة الديموقراطية. أما عبادة الإله الواحد، فقد أسست للوحدانية والاستبداد، وفرضت أحكام الشريعة وما تنبني به من مفردات العصيان والاثم والكفر والعقاب الوحشي.
ولكن يبدو أننا نعود الى الوراء، في ما يخص حرية التفكير والتعبير. فهامش الحرية الذي كان متاحاً في زمن المعري التنويري، قد أخذ يتقلص عما كان عليه في زمن طه حسين. حتى في فرنسا، بلد الأنوار، أخذت تضيق مساحة الحرية أمام الزحف الاصولي والنشاط الارهابي، وكما تشهد الهجمات البربرية المتلاحقة، منذ سنوات، ضد الصحف ووسائل الاعلام.
النبوة عقل ينكر نفسه
على مستوى ثالث، هناك التجربة النبوية نفسها. وإذا شئنا مزيداً من الخرق للحجب والغلالات، كي لا نشهد على تعصبنا ولا نسدل الستار على عقولنا، بالوسع القول إن النبي استثمر كل ما وهبته إياه طبيعته البشرية من الطاقة الفكرية والقوى العقلية والملكات الادراكية. والعقل إنما هو حيلة الانسان ووسيلته، تماماً كما أن التفكر هو هِبته وميزته.
بهذا المعنى، فما تركه النبي من نص أو حديث أو أثر، إنما هو ثمرة خبراته وتأملاته، كما هو نتيجة معايشاته ومكابداته، في مواجهة الصعوبات والعوائق، لإيجاد مخارج من المآزق. فكان بذلك يصنع الحدث على مستوى المبادئ والمواقف، كما كان يتدبّر ما يحدث ويفاجئ، على مستوى التشريع والتنظيم. فمارس بذلك عقله في مختلف أبعاده اللاهوتية والناسوتية، الدينية والدنيوية، النظرية والعملية.
بالطبع لقد أفاد النبيّ من الإمكانات التي كانت متاحة في زمنه في الاوساط الفكرية التي احتك بها. وكانت الحصيلة إعادة ابتكار الديانة التوحيدية بتقديم نسخة جديدة عنها، نسخة معرّبة لها أصالتها وفرادتها، كما لها مزاياها وإعجازها. والاعجاز يعني، هنا، الإتيان بشيء غير مسبوق، وغير قابل للنسخ والتكرار. بهذا المعنى، كل أثر أدبي خارق يعدّ معجزة، كشعر المتنبي أو شكسبير أو غوته…
المرآة والقراءة
هل معنى ذلك التشكيك بصدق الرواية النبوية؟
نحن لا نتبنى اليوم موقف المعري في تكذيبه للأنبياء. لأننا ننتقل من عالم فكري يتعامل مع الحقيقة بمفردات الماهية والهوية أو المطابقة والثبات أو القبض والتيقّن، إلى عالم فكري آخر يتعامل معها بمفردات القراءة والعلاقة أو الخلق والتحويل أو اللعبة والرهان. بذلك ينكسر منطق التحقيق ومنهج التصديق، وعلى نحو يتغير معه ثالوث العلاقة بين النص والحقيقة أو بين النص والمؤلف أو بينه وبين القارئ.
من وجوه هذا التغير أن النص يتعدى أطروحته، بمعنى أنه ليس هو مجرد ما يطرحه ويقوله أو يثبته ويقرره. وإنما هو أيضاً، وخاصة، ما يستبعده ويحجبه، أو ما يجهله ويستعصي عليه دركه أو فهمه.
قد نرفض منطوق النص، بوصفه وحياً وتنزيلاً، ولكن النص ليس مجرد دعوة أو أطروحة. إنه كتشكيل خطابي وفضاء دلالي واقعة لها حقيقتها ووزنها واثرها. ولذا لا يعامل بمنطق المماهاة والتصديق ولا بمنطق النفي والرفض، بل يُقرأ قراءة توليدية تحويلية، كإمكان للتفكير أو كحقل للدرس، بحيث نقرأ فيه ما لم يقرأ، بالدخول على ما يتأسس عليه ويحجبه: بداهاته ومستنداته، بنيته وآليات اشتغاله، سلطته والاعيبه.. والنص إنما يتناسى حقيقته وواقعه، فميا هو يتحدث عن الواقع.
والوجه الاخر لهذا التغير مفاده أن النص يتجاوز مؤلفه، كما يتعدى أطروحته. بمعنى أنه ليس مجرد كلام يعبر بصدق عما تصوره المؤلف أو قصده. قد يخدع النص صاحبه أو يناقضه أو يكذبه ومن حيث لا يحتسب. وهكذا ليس النص لسان حال المؤلف، كما أنه ليس مرآة الواقع .بهذا المعنى لا نص يقبض على حقيقة الواقع، كما لا قراءة تقبض على معنى النص، تماماً كما أنه لا مُؤَلِف يتحكم بما يمكن أن تتركه أقواله ونصوصه من الآثار والتداعيات الايجابية أو السلبية.
اللعب والرهان
ثمة تطور آخر في قراءة النصوص تجلى في التعامل معها من خلال مفردات اللعب والاستراتيجية والرهان.
والرهان يعني أن ما نكّونه حول العالم، من تصورات أو ننشئه من نظريات، هي مجرد وجهات نظر نقيم معها علاقة مع الحقيقة ولا نقبض عليها. إنها قصتنا مع الحقيقة أو روايتنا للأحداث أو قراءتنا للوقائع. وكل قراءة تشكل هي نفسها واقعة نصنع بها حقيقتنا ونلعب لعبتنا، بقدر ما نغير علاقتنا بالواقع نفسه. كل قراءة تخلق حقيقتها وتفرض نفسها، بقدر ما تخلق مساحتها التداولية على ساحة الفكر، كإمكان للتفكير أو للعمل والتدبير.
واللعبة النبوية هي ذات بُعد استراتيجي بقدر ما هي ذات طابع سردي. وفي السرد يجري الكلام دوماً على لسان آخر، فيُنسب إلى بطل مُتخيل كما في الرواية، أو إلى شخص مفهومي كما في السرد الفلسفي، ومثاله الكلام على سقراط في نص أفلاطون. وقد يُنسب الكلام إلى كائن غائب أو رمزي، كما في الفكر الأسطوري والديني.
وهذا هو منطق اللعبة في السرد النبوي: أن يُنسب الكلام الى الكائن القادر على كل شيء والعالم بكل شيء ومرجع كل شيء، ولكنه الغائب دوماً عن مسرح الوجود. وهذا مصدر الالتباس ومحل الاشكال. ولا شك أن النبي قد استثمر الامكان الذي فتح مع أول نبي، باختراع الصيغة الدينية التي تقوم على إدارة البشر لشؤونهم، مداورة لا مباشرة. نحن إزاء حل لمشكلة السلطة كان في زمنه في منتهى الذكاء والشيطنة، إذ تفوق به الذين اجترحوه على إبليس الذي هو محل اللعن والرجم من جانب الأنبياء.
خلاصة القول: إن العقل كان حاضراً في تجربة النبي، بأقوى ما يكون وأكثر ما يكون. ولذا، فإن خطاب النبوة إنما يصدر عن عقل فائق، استثمر فيه صاحبه قدرته على النظر والتفكر والاستنباط، بقدر ما تحلى بالروية والحكمة والدهاء، ولكن هذا العقل قد وُظّف على نحو سلبي سلطوي، لتعطيل عقل من يسميهم القرآن العبيد أو العباد، لمصلحة الأمر والنص والفتوى وثقافة السمع والطاعة. وتلك هي إشكالية العقل الديني وذلك هو مأزق المشروع النبوي. مما يعني أن لكل شيء وجهه الآخر.
ولعل هذه هي إشكالية أصحاب الدعوات عموماً، قدماء ومحدثين. فعدوّهم الأول هو من يُفكر بصورة حرة، مستقلة تجعله مختلفاً، بقدر ما تجعله عصياً على الرضوخ والقولبة. ولذا فالهاجس عند الواحد منهم هو صنع أتباع يفكر عنهم ويشرّع لهم أو يقودهم ويسيطر عليهم. أما الأتباع، بوصفهم تخلّوا عن عقولهم ورضوا بعبوديتهم، فإن ما يتقنونه هو التعصب والكره والعداء. ومثال ذلك الآن تلك القطعان البشرية التي تتجمهر في الشوارع، مهددةً بالاقتصاص ممن يُسيئون إلى النبي. ومن الطبيعي أن يكون المآل لمثل هذا المنطق هو النزاعات والانشقاقات والعداوات، كما يفيدنا تاريخ الدعوات الدينية والمشاريع الايديولوجية.
وأنا لا أظلم الأنبياء وأصحاب الدعوات. فأقل ما نحتاج إليه، إزاء هذه البربرية التي تجتاحنا من جانب الإسلاميين، هو أن نضع الخطاب النبوي على مشرحة النقد ولو بصورة ساخرة أو هازئة. وإلا نكون متخلفين عن عصر الفارابي وابن رشد وابن عربي. بل نكون متخلفين عن السيدة عائشة زوجة النبي، التي كانت امرأة فائقة الذكاء، تملك قوة الحجة والجرأة على القول والنقد والاعتراض في مواجهة الأمر الالهي، وذلك حيث يتواطأ الله مع رسوله لينقذه من ورطته. هذا ما تشهد به مواقفها. فبعد أن نزلت الآية وقضت بإلغاء قاعدة التبني، أصبح بإمكان النبي الزواج من ابنة عمته زينب، بعد أن طلّقها زوجها زيد الذي كان ابناً له بالتبني. عندها قالت عائشة للنبي: “ما لي أرى ربك لا يُسارع إلا في هواك”. بذلك قلبت أم المؤمنين الآية، بفتح مفاهيم الوحي والحق والخلق على معاني الهوى واللعب والعبث.
الاصطفاء يرتد على أصحابه
آن للعرب أن يعودوا الى رشدهم وأن يحملوا المسؤولية عن أنفسهم. فلا ينسبوا ما صنعوه بعقولهم واختباراتهم وجهودهم، الى رب العالمين الذي أملى عليهم ما تصلح به حياتهم من التعاليم والشرائع، واصطفاهم ليبلّغ العالم آخر رسائله ومقرراته.
لقد انكشفت الرواية وتغيرت قواعد اللعبة الوجودية، وما كان صالحاً في ما مضى، لا ينتج اليوم سوى العجز والفساد أو الاستبداد والارهاب، كما تشهد مآلات العمل الديني وآخرة النشاط الجهادي.
زد على ذلك أن الفكر الديني الاصطفائي يرتد في النهاية على أصحابه. فالذي يتباهى بأن الله قد شرّف العرب واختارهم، من دون سائر العباد، لكي يختم رسائله، لا يعرف معنى ما يقول. إنه يحتقر العرب ويقلّل من شأنهم، فيما هو يحسب أنه يمتدحهم، لأن مبنى كلامه أن العرب قوم قاصرون لا عقل لهم، بمعنى أنهم لا يحسنون إدارة شؤونهم، باستثمار طاقاتهم الفكرية، على غرار ما فعل اليونان. فهؤلاء لم ينتظروا هبوط الوحي، بل اخترعوا الديموقراطية والفلسفة والمنطق. كذلك فعل الرومان الذين ابتكروا في مجال القانون والتشريع، لكي يتدبروا وجودهم وينظموا اجتماعهم.
وإذا كان العرب يتباهون بفتوحاتهم واستعمارهم للشعوب، التي آمنت بنبيّهم وصدّقت بمشروعهم، فلماذا يستنكرون غزو الغرب لبلدانهم، وهو حدث تاريخي شكّل انعطافة في مسيرة وجودهم، بقدر ما أيقظهم من سباتهم الحضاري.
كفانا نرجسية ومكابرة او تشبيحاً وشعوذة باسم الله والانبياء. فذلك يحولنا الى صناع للإرهاب وأعداء للناس في العالم.
فرنسا هي الضحية
وما جرى في فرنسا شاهد بليغ وفاضح: شيشاني لاجئ هرباً من فقر بلده أو جور حكومته، يتحول الى ذئب جهادي كاسر، ليذبح أستاذ التاريخ في إحدى المدارس، لأنه عرض على تلامذته رسوماً كاريكاتورية للنبي محمد.
وأنا، وكما أقارب المشكلة منذ سنوات، لا أضع الملامة على فرنسا، لأنها تتطرف في ممارسة حريتها في التعبير، كما يتهمها إسلاميون وحداثيون يخفون إسلاميتهم. بل أرى على العكس بأنها كانت تتساهل وتتراجع باستمرار، ومنذ عقود، في دفاعها عن مبادئها وقيمها العلمانية والجمهورية أو المدنية والليبرالية، هي التي تتيح ممارسة النقد الساخر للمسيح وللرموز المسيحية، منذ الثورة الفرنسية الكبرى (1789).
الأساس في ما جرى أن المسلمين لا يريدون ولا هم مستعدون للاندماج في المجتمع الفرنسي.
هذه الظاهرة لم تعد تقتصر على الكبار. فالتلميذ المسلم، حتى في المرحلة المتوسطة، بات غير قابل للاندماج في مدارس الجمهورية، لأنه أصبح يعترض على أساتذته ولا يستمع إلى دروسهم وشروحاتهم، بعد أن استولى على عقله أهله ومشايخه بشعوذاتهم وخرافاتهم.
القلة القليلة منهم يتعاطون مع هويتهم بوصفهم مواطنين يعيشون في مجتمع مدني حديث. أما الأكثرية فإنها تغلّب هويتها الاسلامية على هويتها الفرنسية، بتمسكها بعاداتها وطقوسها وقيمها، وإصرارها على إنشاء الجمعيات الدينية والإكثار من بناء المساجد وإعلاء المآذن في بلد قد تعلمن وأصبحت الكنائس فيه شبه مهجورة. هذا التصرف يحول المسلم الذي يحمل الجنسية الفرنسية الى لغم يهدد وحدة فرنسا وهويتها، ليعود بها الى ما قبل العالم الحديث، بل هو يدفع بعض الفرنسيين، الذين خرجوا على طوائفهم للعودة اليهم والتراجع عن علمانيتهم. وهذا أسوأ ما يمكن أن يحدث لفرنسا وللعالم، وبخاصة للعرب. فذلك يعمل لمصلحة الإسلام السياسي والجهادي، ضد الكتلة الحداثية بمختلف موجاتها وأطيافها.
بهذا المعنى ليس المسلمون ضحية التهميش والإقصاء كما يدّعون، وإنما هم ضحية هويتهم ومعتقداتهم. فرنسا هي الضحية لميزتها ولكونها مساحة فريدة للحريات الديموقراطية التي يستغلها الاسلاميون للقضاء عليها، بفرض نمطهم في التفكير الأصولي الأُحادي، أو الاصطفائي والإرهابي.
ولذا فإن فرنسا هي اليوم أمام تحدٍّ كبير. فالمسلمون الذين يعيشون فيها ويحملون جنسيتها لم يصبحوا فرنسيين، وربما لن يصيروا كذلك، لأنهم يعملون على أسلمتها بصورة متصاعدة. وتلك هي المشكلة. فمعظم الفرنسيين يتعاطون مع هويتهم ويقدمون أنفسهم إلى العالم، لا كمسيحيين، بل بوصفهم مواطنين يعيشون في دولة لها قيمها وقوانينها ومؤسساتها الحديثة، بعد أن مروا بتحوّلات الثورة والعلمنة والأنسنة.
وفي المقابل فإن معظم المسلمين يُصرّون على التعامل مع هويتهم كمسلمين لا كفرنسيين. ومع أنهم أتوا من بلدان مختلفة، كالجزائر وتونس والسنغال وتركيا والشيشان وأفغانستان… فإنهم يُشكلون كتلة دينية موحّدة ومتضامنة في مواجهة المجتمع الفرنسي. ولهذا فهم لا يختلفون عن الجهادي الشيشاني القاتل، من حيث نمط التفكير المبني على احتكار الحقيقة، وتقديس السلف، وتطبيق أحكام الشريعة، ومعاداة الحداثة والعالم.
والشاهد هو ما كتبته تلك الفتاة على صفحتها الشبكيّة لتؤكد بأن أستاذ التاريخ يستحق القتل. وأنا لم أسمّها فرنسية، مع أنها تحمل الجنسية الفرنسية، لأنها لا تستحق جنسيتها. وهكذا يُفكر معظم المسلمين، أكانوا فرنسيين أم عرباً أم غير ذلك. فهم إذا كانوا غير قادرين على قتل الأستاذ، أو يهابون ذلك، فإنهم يتمنون أن يقتله واحدٌ غيرهم. والقاتل سيفوز برأيهم بمرتبة الشهيد السعيد في جنة الفردوس.
عملة مستهلكة
مرة أخرى، هذه هي المشكلة التي تفتك بفرنسا: تغليب منطق الشريعة والخلافة والفتوى على قيم المواطنة والدولة المدنية والمداولة الديمقراطية، سعياً لأسلمة فرنسا. وهذه المشكلة هي نفسها التي تمزّق البلدان العربية. وتلك هي حصيلة استخدام العملة الدينية في تنظيم الحياة وتدبّر الوجود في هذا الزمن، وهي عملة صارت مزيفة، عقيمة، مستهلكة.
أما الذين يقولون، الان، تعليقاً على الحدث الفرنسي، بأن الاسلام يحض على التسامح ولا يأمر باستخدام العنف، فهُم إما منافقون أو جاهلون لأصول ديانتهم. فالإسلام شأنه شأن أي دين توحيدي، أو معتقد شمولي، مبرر قيامه هو التعامل مع سائر الاديان والعقائد بمنطق الاقصاء والنبذ والكره والعداء. فأنت عندما تقول بأن نبيّك أو إمامك هو سيد الخلق، أو تنهم الاخر بأنه مشرك أو كافر أو نجس أو ملحد، إنما تستخدم العنف أقله على المستوى الرمزي، ثم يأتي الجهادي ليمارسه على المستوى الجسدي، فيذبحه لوجه النبي، أو لوجه الله كما ذبح عليّ بن أبي طالب عمرو بن ودّ العامري في موقعة الخندق.
من هذا المنطلق، أمارس نقدي للمثقفين الفرنسيين، كأوليفييه روا، ممن يفصلون بين الإسلام والحركات الجهادية، بقولهم إن المسألة ليست تطرف الإسلام، بل أسلمة الحركات المتطرفة والراديكالية. من يقول بذلك يموّه الحقيقة بنسيان الأسباب الجذرية للإرهاب والتركيز على النتائج. إنه يُغفل المنبع ويتوقف عند المصبّ، ويتناسى المصنع الذي ينتج العنف للإنشغال بالنُسخ والنماذج.
النبوة والإرهاب
لنحسن القراءة والتشخيص لإيجاد المخارج. فمشكلتنا ليست مع فرنسا التي نقاطع بضائعها، بل مع البضاعة الإرهابية التي نصدّرها إلى العالم. مشكلتنا نحنُ الذين لا نُحسن أن نتقدم، أننا نُريد لفرنسا أن تتخلّف، كما تُريد لها المحجبات والمبرقعات وأكلة اللحم الحلال، ناهيك بالذين يعتبرون أن التعاليم الدينية هي فوق الحقائق العلمية والبرامج التعليمية، وأولى من حريات التفكير والنقد والتعبير.
ولذا فما يحتاج اليه العرب الان، بعد كل هذا الاخفاق والاستعصاء والانسداد، هو القيام بمراجعة نقدية تطال الثوابت والمحرمات والمقدسات، إذ هي مصدر ما نشكو منه وما نحصده من الأزمات والكوارث.
مثل هذه المراجعة النقدية هي التي سوف تكسر النرجسية الثقافية، وتطوي صفحة النبوة الخاتمة، وتفكك أسطورة الكتاب الذي ينطوي على العلم بكل شيء. ففي عالم البشر لا اكتمال ولا انغلاق، لا ثبات ولا جمود. هناك دوماً أخذ ورد، علم وجهل، عقل وحمق، تقدم وتقهقر، بناء وخراب…
والمثال أنه، عندما كانت الحضارة الاسلامية تسجل تراجعها وتبلغ منتهاها، كانت تتفاعل عوامل وعناصر، لولادة ديناميكية حضارية في أوروبا، ما زال العرب يتعيشون على منجزاتها واختراعاتها ،ويتلقون آثارها وتداعياتها الايجابية والسلبية. والأجدى لهم، بدلاً من النوم على أمجاد الماضي، الذي لم يكن فردوسياً، المشاركة على قدم المساواة، مع بقية الأمم والشعوب، في صناعة الحضارة القائمة، بابتكار ما تحتاج اليه الحياة في هذا العصر، من القيم والقواعد أو المفاهيم والنظم أو الأدوات والوسائل…الأمر الذي يقتضي الخروج من حظيرة الدين والتوقف عن محاولات أسلمة الحياة، عبر أسلمة الهويات والمجتمعات أو الدول والدساتير أو العلوم والمعارف. فذلك أفضل للإسلام وللعرب وللعالم أجمع.
ولا يعني ذلك، بحال انسلاخ العربي عن تراثه الهائل. كل الأمم لديها تراثات ومآثر تعتز بها، ولكنها تتعامل معها كإمكانات للوجود والحياة. وحدهم العرب يتعاملون مع تراثهم كثوابت مطلقة يجري تقديسها والتعبد لها، لتحويلها إلى عبء وعائق أو الى عُصاب ومتراس، يشوه سمعة العرب في العالم. هذا فيما التراث الحي هو خبرات تركها الماضون يمكن الاشتغال عليها، وتحويلها الى عملة راهنة تتيح للواحد أن يتدبرّ وجوده ويحسّن مستوى عيشه، وأن يحسن التواصل مع سواه.
باختصار: المخرج من المأزق هو الكف عن التعامل مع الدين ورموزه وأشيائه بوصفه علة الوجود ومحور الحياة، للتعامل معه كفاعلية ثقافية من بين فاعليات عديدة، لا أكثر ولا أقل. من غير ذلك تتحول هويتنا إلى مشكلة أو إلى كارثة، أكنا في باريس أم في القاهرة، في طهران أم في لبنان، في اسطنبول أم في أفغانستان.
أنهي مقالتي بالقول: يُنتظر من فرنسا أن تصمد ولا ترضخ أو تتساهل أمام الضغوط التي تُمارس عليها، من جانب الدول التي ترفع راية الإسلام والدفاع عن مقدساته، فيما شغلها الشاغل هو تصدير المنظمات الإرهابية، لنشر الرعب وسفك الدماء وزعزعة الاستقرار حيث أمكنها ذلك في هذا البلد أو ذاك. والأطرف هم أولئك الساسة ورجال الدين الذين يحتفلون الآن بالمولد النبوي، فيما هم حولوا بلدانهم إلى بؤر للفساد أو إلى مسرح لأعمال الإجرام والخراب.
هنا تتبدى الفجوة الحضارية بيننا وبين فرنسا، التي نُجيش القطعان للتظاهرة ضد رئيسها أمام السفارة الفرنسية في بيروت. فماكرون وأركان حكومته قد اجتمعوا في جامعة السوربون، لكي يؤدوا تحية الوداع للأستاذ المغدور صموئيل باتي. وماكرون نفسه، كان قد أتى إلى لبنان ليتضامن مع شعبه، بعد الانفجار الرهيب في مرفأ بيروت، الذي كان شبه انفجار نووي راح ضحيته مئات القتلى والجرحى، بعد أن دمّر جزءاً من عاصمة لبنان.
هذا ما فعله ماكرون الذي استُقبل كبطلٍ منقذٍ، من قبل أهالي بيروت المنكوبة، فيما قادة لبنان وحُكّامه، قد تصرفوا إزاء هذا الحدث، الذي يعد جريمة بحق الإنسانية، وكأنه جرى في مكانٍ آخر، بل إن البعض قد أعرب عن فرحه بحدوثه وكأنه كان ينتظره، والبعض الآخر كاد يحتفل بحصوله وكأنه هو الذي دبّره.
هناك أكثر من مليار مسلم في العالم. فلتبقَ فرنسا بلداً ديموقراطياً، ومجتمعاً مدنياً ليبرالياً. أما أن تصبح إسلامية كما يُريد لها الجهاديون والمجاهدون في سبيل الله. فتلك ستكون كارثة عالمية تشهد على انهيار حضارة أو سقوطها.
هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها