تحكّم الاتحاد السوفياتي بدول أوروبا الشرقية بين العام 1945 تاريخ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبين 1989 تاريخِ سقوطِ جدار برلين وزوال ألمانيا الشرقية وتحرّرِ دول أوروبا الشرقية المجر وبولونيا وبلغاريا ورومانيا وألبانيا وتحوّلِ تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين هما تشيكيا وسلوفاكيا وتفتّت يوغوسلافيا إلى مجموعة دول تلاه حرب داخلية ضارية في البوسنة ثم الى كل ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي نفسه وخروج بقية جمهوريات أوروبا الشرقية منه (وجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز).
نعيش مرحلة النفوذ الإيراني في منطقة المشرق العربي بما يسمح بالقول رغم اختلاف أنماط النفوذ أن هذا المشرق، أو الهلال الشيعي حسب التوصيف الشهير لملك الأردن عبدالله، هو حالياً بالنسبة لإيران بمثابة ما كانته أوروبا الشرقية بالنسبة للاتحاد السوفياتي. فالعراق ولبنان وسوريا واليمن هي إذن دول توسّعِ المحور الإيراني كما كانت دول أوروبا الشرقية دول توسّع المحور السوفياتي.
رغم هذا التشابه الجوهري فإن فارقَين أساسيين بين المنظومتين:
الفارق الأول أن الولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب اعترفا بل صادقا على النفوذ السوفياتي في شرق أوروبا بينما هما لا يعترفان حتى اليوم، على الأقل علناً، بالنفوذ الإيراني في المشرق العربي.
الفارق الثاني أن دول اوروبا الشرقية كانت دولا متماسكة، بقوّتيْ الاعتراف الدولي ونظام القمع الشديد بينما دول الهلال الشيعي المشرقية هي دول مفتّتة وجميعها في حالات حروب أهلية باردة وساخنة.
ترك الأميركيون على الحدود الشرقية لإيران نظاماً إسلاميا عصبويا هو نظام طالبان المهيأ لكي يكون في حالة عداء للنظام الإسلامي الإيراني. إيران تحاول عبر لعبة معقّدة يتقنها عادة الدهاء الإيراني إيجاد صيغة تعامل مستقر مع طالبان تقوم بصورة أساسية على محاولة تفاهم بين النظامين ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش سابقا) وفي الآن معا اللعب بين توازنات الأجنحة المختلفة داخل طالبان من جهة وبين استمرار توظيف النفوذ الإيراني داخل أفغانستان عبر أقلية الهزارا الشيعية وتنظيم “الفاطميون” المنبثق عنها برعاية وإشراف الحرس الثوري مثل “حزب الله” اللبناني و الميليشيات العراقية، ومن جهة ثانية التمسك بالعلاقات التقليدية الجيّدة التي تقيمها مع أقليتي الطاجيك والأوزبك الأفغانيتين المعاديتين تقليديا لطالبان البشتونية، وهو العرق الذي يشكّل الأكثرية الأفغانية.
لكن بأي حال لا يجب اعتبار أفغانستان تحت النفوذ الإيراني أو هي جزء من المنظومة الإيرانية لا اليوم ولا لأمد طويل مستقبلاً. العكس صحيح، فهناك احتمال كبير إذا لم يحصل اتفاق أميركي إيراني أن تستخدم الولايات المتحدة العداء الطالباني الكامن لإيران مقابل مقايضة “طالبان” بالاعتراف الدولي بها وتوجيه المساعدات الاقتصادية نحوها وهو دور لا تستطيع باكستان المأزومة اقتصاديا و صاحبة التأثير الأول في العاصمة الأفغانية حاليا أن تلعبه. (راجع مقالة كريستيان هوج هانسن وحليم الله كوسري : هل تستطيع إيران التفاهم مع طالبان؟ (نقلا عن موقع “وور أون ذي روكس” – “تكساس سيكورتي ريفيو” في 7حزيران 2022).
من المهم ملاحظة سياسة “طالبان” في الانفتاح على بعض رموز النظام الأفغاني السابق القريب من واشنطن ودعوتهم للعودة إلى البلاد في مسعى لتعزيز الصورة الانفتاحية للنظام الجديد. أما إلى أين سيصل كل ذلك فلا تزال هناك شكوك كثيرة في مدى قبول الجناح المتشدد من طالبان الذي يقوده نجل المللا عمر القائد السابق الراحل ل”طالبان” سواء باستمرار الانفتاح أو بحجمه.
يبقى العامل الصيني الذي بدأ يقيم صلات تقارب، بينها اقتصادية مع “طالبان” بعد طول قلق من انعكاس التشدد التعصبي الطالباني على الوضع في إقليم سينكيانغ (تركستان الشرقية) داخل الصين حيث تعيش أقلية الإيغور المسلمة.
لو نظرنا من أفغانستان إلى لبنان على مدى هذه الخارطة الواسعة لأدهشنا كيف يتعايش النظام الإيراني مع هذه المساحة من الدول المفتتة والقلقة والمتخلفة بما فيه الوضع داخل إيران نفسه. ويستطيع كاتب روائي أن يتخيّل في الطوابق السفلية تحت مبنى قيادة الحرس الثوري في طهران طابقا من غرف عديدة تدير كل غرفة بالفريق الذي يستلمها أوضاعا يومية:
الغرفة اللبنانية، الغرفة السورية، الغرفة العراقية، الغرفة اليمنية، الغرفة الأفغانية. ربما يتناول الأعضاء الإيرانيون ومساعدوهم ومستشاروهم المختارون من دول المنظومة طعام الغداء أو العشاء معا لينصرف كل فريق إلى متابعة وإدارة اللا استقرار المكلّف به! وربما خلال استراحاتهم يتبادلون النكات من الخبرات التي اكتسبوها من علاقاتهم بشعوب ونخب المنطقة.
عندما تداعى جدار برلين انهارت تباعاً كل المنظومة السوفياتية التي كان العجز الاقتصادي قد افترسها من داخلها. صحيح أن الاقتصاد الإيراني أظهر مقدرة أكيدة على الاحتضار الطويل دون أن ينهار إلا أن السبب الرئيسي في ذلك هو الطاقة النفطية والغازية التي لا تزال تجد أسواقا – منافذ رغم تضاؤل الإنتاج كذلك الثروة الزراعية التي تسمح بتلبية جزء مهم من الحاجيات الغذائية لل84 مليون إيراني . وقد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أن إيران، خلافاً لدول عديدة، لديها توازن طبيعي بين ثروتها النفطية وثروتها الغازية بمعزل عن ضعف بناها الإنتاجية والخدماتية التحتية بسبب العقوبات.
عاشت تلك المنظومة السوفياتية سبعين عاماً بعد انتصار الثورة البلشفية خلال الحرب العالمية الأولى، وأربعةً وأربعين عاما بعد الحرب العالمية الثانية، فكم ستعيش المنظومة الإيرانية الأصغر والأقل موارد؟
لم يؤسِّس المنظومة السوفياتية في أوروبا مؤسِّسُ النظام البلشفي فلاديمير لينين بل أسّسها الوريث الطويل الأمد جوزف ستالين. كذلك لم يؤسِّس مؤسِّس نظام ولاية الفقيه روح الله الموسوي الخميني المنظومة الإيرانية المشرقية بل الوريث الطويل الأمد علي خامئني. صمدت المنظومة الأوروبية بعد ستالين 36 عاما فكم ستصمد المنظومة الإيرانية بعد خامنئي الذي يزال يدير إيران؟
“النهار”اللبنانية