
(خاص)
التجدد الاخباري
كلما اطلعت على جانب من سيرة السيدة عائشة بنت أبي بكر، وجدت أن هذه السيدة قد استخدمت سلاح النقد والعقل، في مواجهة عالم الرجال، لتدحض الرأي القائل بأن المرأة تعاني من نقص تكويني على المستوى العقلي والفكري.
من المفارقات في هذا الخصوص أن السيدة عائشة، قد استطاعت بذكائها وجرأتها، وهي التي عايشت النبي، فوقفت على أسراره واختبرت نقاط ضعفه، أن تقف موقفها النقدي، من ظاهرة الوحي، بقولها للنبي الذي لا ينطق عن الهوى، بحسب كلام الله: ما لي أرى ربك لا يسارع إلا في هواك، بمعنى أن النبي كلما وقع في ورطة أوجد الله له المخرج لإنقاذه.
هذا فيما نجد أن كبار العلماء قد سكتوا بنوع من التواطؤ على هذه المشكلة؛ أو أنهم سخّروا أدواتهم المنهجية ومواهبهم النظرية للدفاع عن ظاهرة الوحي الالهي، وعن النبوة الخاتمة، بما هي تختم على العقول والبصائر بختم الجهل والشعوذة أو التعصب والعماية.
وكانت السيدة عائشة استثناء في هذا الخصوص، إذ كانت تتدخل عندما ترى ما لا يُعجبها أو يُغضبها من رأي الرجال في النساء. هذا ما فعلته ذات مرة، عندما كان صحابة النبي يتحدثون عن النساء، فشبّهوهنّ بالحيوان والشيطان. ما جعلها تصرخ في وجوههم: بئس ما تقولون.
ولا مبالغة في وصف هذا الموقف بأنه تنويري، لأن صاحبته تتساءل أو تشكك في ما لا يجوز مساءلته أو الجدل فيه. وهو الى ذلك يفضح موقف الرجل الذي يجرد المرأة من إنسانيتها. أو يدعو الى ضربها، كما ينص خطاب الوحي، الذي هو خطاب ذكوري بامتياز.
من هنا فإن موقف السيدة عائشة يحملني على استحضار أبرز مناضلة نسوية في العصر الحديث، الفيلسوفة سيمون دو بوفوار، صاحبة المقولة الشهيرة: لا تولد الأنثى امرأة، وإنما تصبح كذلك.
ومبنى القول أن المرأة لا تولد ناقصة الطبيعة ككائن من الدرجة الثانية تابع للرجل. مثل هذه الوضعية الدونية، كما عوملت المرأة من جانب الأنبياء وبعض الفلاسفة، هي حصيلة للثقافة الذكورية والشريعة الدينية، أو للبنى الاجتماعية والمؤسسات السلطوية. والثقافة الذكورية، التسلطية، هي التي تجعل المسلم المتدين يصادق على الرواية التي تقول بأن الحكمة، من زواج النبي من ابنة عمته زينب، هي إلغاء قاعدة التبني، ووضع قاعدة شرعية أخرى تنص على أن الابن بالتبني ليس ابناً حقيقياً، بل هو مجرد دعيّ، وأنه إذا ما طلق زوجته يحق لغيره تزوجها.
تلك هي لعبة النبوة: تشويه ومسخ تلك القوة العظمى والخارقة، التي وقفت وراء نشوء الكون بما فيه من العوالم والمجرات أو الكواكب والنجوم، سواء سميت الله أو المحرك الأول أو واجب الوجود، أو أي اسم الآخر كالمهندس الاكبر أو الحاسوب الاعظم.
يتجسد التشويه والمسخ في أنسنة الله وتحويله إلى مجرد آلة تسخر لإرضاء نزوات الأنبياء وشهوات الرجال. وهذا ما تفيده الآية بخصوص القيامة الفردوسية السريالية، بهواماتها وهلوساتها: خلق جنة عرضها السموات والارض، ليمارس الرجل فجوره وعربدته بذكر لا يمل وشهوة لا تنقطع.
هل أنا أسيء الى أم المؤمنين؟
جوابي أن هذه هي قراءتي لأقوال ومواقف السيدة عائشة. والقراءة المنتجة، الفعالة والراهنة، هي التي تجعلنا نعيد النظر في ما كنا نفكر فيه ونعرفه، باختراق ما يمنع الكلام فيه أو اقتحام وتفكيك ما يمتنع على الفهم، بسبب انغلاق العقل وقصور المناهج وسيطرة الاهواء. هذا شأن القراءة المثمرة والفعالة. إنها قراءة مختلفة وغير مسبوقة تقرأ في الكلام ما لم يُقرأ، بقدر ما تفتح الإمكان لتغيير زاوية الرؤية وعلاقات القوة، وعلى نحو تتغير معه علاقة الواحد أو الواحدة بذاتها وبغيرها، بالكلمات والأشياء.
هل هي قراءة صادمة؟
الاحرى أن تكون كذلك، لأن الواقع يفاجىء ويصدم. ولهذا فهو يحتاج الى قراءة تعيد النظر بالمسبقات والمسلمات أو بالثوابت والاصول التي تعيد إنتاج الازمات بشكلها الاردأ والابشع والاخطر.
هذا هو مسوغي في الجمع بين امرأة عربية عاشت في صدر الاسلام، وبين امرأة غربية ثائرة، متحررة، عاشت في القرن العشرين. إنه المشترك الانساني، الجامع والعابر للحواجز العقائدية والهويات الثقافية.
نحن إزاء سيدتين كلتاهما عانت من استبداد الرجل وقيمومته. وكلتاهما حاولت أن تفضح ما يتأسس عليه خطاب الرجل من الحجب والزيف والاقصاء.
والرجل هو هو في الشرق والغرب، في فرنسا وأميركا، في الاسلام والمسيحية واليهودية. إنه يفكر بالتعدد ويحلم به ويسعى الى ترجمته. والفارق، مثالاً، بين الشيخ المسلم والمثقف الحداثي، أن الأول يجمع ما طاب له من النساء، بحجة أنه يطبّق شرع الله؛ أما الثاني فإنه يوظف سلطته أو ثروته، مركزه أو هالته، لممارسة أعمال التحرش والاغتصاب، كما يفعل كُتّاب وفنانون أو أساقفة وساسة، أو المدربون في قطاع الرياضة.
وإلا كيف نفسر مسلسل الفضائح الجنسية، التي ضجت بها بعض المجتمعات الغربية، كفرنسا وأميركا، في السنوات الأخيرة! والفضيحة الأبرز في هذا الخصوص كان بطلها المخرج الأميركي هارفي ونستاين؛ أما ضحاياها، تحرشاً واغتصاباً، فكنّ العشرات من الممثلات والعاملات في حقل السينما.
ثمة سؤال يفرض نفسه هنا: هل ما يُقال على الرجل يسري على المرأة؟ ما تمليه الطبيعة هو التعدد والتنوع أو التنقل والتجدد، سواء تعلق الأمر بالمرأة أو بالرجل. ولكن لا تكافؤ ولا توازن في هذا الخصوص، ما دُمنا نقيم في العصر البطريركي على المستوى الثقافي، حيث علاقات القوة هي لمصلحة الرجل.
من المفارقات في هذا الخصوص، ما تعترف به أوديت كريسون أول امرأة تسلمت رئاسة الوزارة في فرنسا منذ ثلاثين عاماً، بمناسبة تسمية أليزابت بورن مؤخراً رئيسة للوزراء من جانب الرئيس أمانويل ماكرون.
تقول كريسون بأنها عانت معاناة مريرة خلال تسلمها رئاسة الحكومة لفترة قصيرة، إذ جوبهت بالرفض من معظم النواب، لا لأنها غير كفؤة، ولا بسبب برنامجها بل فقط لأنها امرأة. ولهذا فهي لا تتورع عن القول بأن الرجل الفرنسي الاكثر بطريركية وتخلفاً في أوروبا.
ومن المفارقات أيضاً أن المرأة العربية في الجاهلية وفي صدر الإسلام، كانت أكثر تحرراً من نظيرتها اليوم، ولكن بفضل قواعد المروءة لا أحكام الشريعة، إذ كان بإمكانها أن تخلع زوجها إذا لم تعد راغبة فيه، كما كان الرجل لا يتمسك بزوجته إذا لم تعد راغبة في البقاء معه.
ومع ذلك، فأنا لستُ من دعاة تحرير المرأة، وإن كنتُ أفرح وأهلل لكل من ينجح في صنع حريته أكان امرأة أم رجلاً. فما به أهتم هو بقراءة التجارب وتحليل الظواهر، لتسليط الضوء عما تقود إليه المشاريع والدعوات من العوائق المعرفية والمآزق الوجودية.
من هنا كان نقدي لحركات التحرر النسوي، وهو وجه من وجوه نقدي لحركات التحرر السياسي والوطني، وهي حركات غرق أصحابها في مثاليتهم بقدر ما حسبوا أن قيم المساواة والحرية والعدالة هي ما في الطبيعة والفطرة. في حين أن الواقع البشري، ولو كانت القوانين تنص على المساواة، لا ينتج إلا الاختلاف والتفاوت أو الاحتكار والاستبداد…أما القيم، فهي مجرد قشرة حضارية أو مدنية يسهل استهلاكها أو انتهاكها. من هنا فهي صناعة دائمة تحتاج الى العمل عليها لتعزيزها وتفعيلها أو تعديلها وتطويرها.
ولا شك أن النقد، وإن لم يكن صاحبه ناشطاً أو مناضلاً، إنما له مفاعيله التنويرية والتحريرية، إذا ما أسفر عن ولادة أفكار جديدة خارقة يتسع معها الإمكان الوجودي والعقلي، وبما يتيح لنا أن نعرف ما كنا نجهله من أمر أنفسنا وواقعنا أو مجتمعنا وعالمنا.
والسيدة عائشة تقدم لنا المثال. فهي لم تكن ثائرة أو محررة، وإنما مارست حريتها في التفكير واستقلاليتها كذات مفكرة، على هذا النحو الكاشف والفاضح لعالم الرجال.