aren

المدن المنسية أو الميتة … حضارة وثقافة لسوريا التي ستنهض من جديد \\ بقلم : الدكتور اليان مسعد
الخميس - 16 - يونيو - 2022

كتلة جبل سمعان

المدن المنسية ، او الميتة . وفيها تتجسد ماديا ومعماريا ، أقدم العقائد الروحية و المذاهب الفكرية والقصص الميثولوجية ، وأقدم الكنائس المسيحية : مثل (كنيسة سمعان و قلب اللوزة).

وتقع الكنائس الخاصة بالمدن المنسية ، أو المدن الميتة على امتداد 140 كم طولاً و 40 كم عرضاً ، وفق سلسلة جبل سمعان و جبل الحلقة و جبل العلا وجبل باريشا وجبل أريحا و جبل الزاوية ، وهي جبال محصورة بين (مدن حلب ) و (أنطاكيةغرباً)، ومنتشرة في الشمال الشرقي وادلب و أفاميا و معرة النعمان جنوباً و غرباً ، وحتى شرق حماة .

وهذه المدن ، هي أهم مدن سوريا الهلنستية (أعني الحضارة التي نتجت عن تمازج الحضارة الآرامية السورية و الأغريقية ، التي وصلت مع الإسكندر المقدوني و جنراله سلوقس ) . وحضارة المدن المنسية ، حضارة فريدة لا مثيل لها بالعالم فعلا ، وهي مؤلفة من حوالي 820 قرية ومزرعة، ويعود بعض هذه المواقع للفترة بين 250 قبل الميلاد لبعض الدساكر و المزارع و القرى الصغيرة و المعابد للإله “حدد” و “بعل” و “عشتار”، مقامة على رؤوس تلك الجبال الكلسية ، أصولها آرامية.

و يشكل ما سبق ، نسبة ضئيلة من المواقع ، ثم مواقع بنيت بالعصور الهلنستية ، وأول العصر الروماني بين القرن الأول و القرن الثالث ميلادي عندما اضحت هذه المناطق ملجأ الهاربين من الاضطهاد الروماني للمسيحيين السوريين، لكن أضخم ، و أهم المواقع ، هي التي بنيت من قبل الفلاحين المحليين بالعصر البيزنطي المسيحي في سورية بين القرن الرابع و السابع الميلادي ، وآثارها الحجرية الضخمة ماثلة للعيان رغم مرور 1400 سنة على توقف العمران فيها . وهي حضارة سورية تحصي وتؤرخ بلغة الحجر و العمارة ، قصص ساكنيها من فلاحين و كادحين حرفيين و نساك و أتقياء و شهداء و قديسين ، و تختلف بينها اختلافا تاما عن فن البناء و الهندسة البيزنطي والروماني و الهلنستي عبر إختفاء طريقة التخطيط الشطرنجي الملوكي والدولاتي للمدن و القرى مع نوعية المباني ، التي يختلط فيها العام بالخاص بسبب إختفاء الفروق الطبقية والطبيعية بين السكان ، و نوعية الإنتاج الجماعي ، و انجاز التعمير بشكل جماعي.

كما ، لا نلاحظ فيها أي أثر عظيم ، يوحي بوجود أي تمويل أمبراطوري أو أميري ، أو تدخل للدولة، حيث لم يكتشف أي اثر او منشأة لشخص ذي صفة رسمية أو سياسية ، ما عدا (دير القديس سمعان العامودي)، حيث قام الأمبرطور البيزنطي بعد وفاة القديس سمعان العامودي بفترة بإزالة الكنيسة القديمة المشابهة للكنائس الاخرى بالمدن الميتة المنسية ، فبدافع المنافسة ، أقام كنيسة أمبراطورية ضخمة ذات طابع بيزنطي.

كما، لم يلاحظ بهذه المدن ، وجود أي سور دفاعي لها، مما يدل على التسليم لارادة الخالق ، وبعدها الأمان المنتشر ، و الوداعة التي يتمتع بها سكان هذه المنطقة ، و قد بنيت كللها بالحجارة المتداخلة بدون مواد لاصقة أو مونة لاصقة ، وكلها مكونة من طابق الى ثلاثة ، ومعابدها مسيحية لها طابع بازيلكي متقن ، و أرضية من الموزابيك الرائع برموز مسيحية مع صوامع لنساك و رهبان و أضرحة مهمة لشهداء المسيحية الآوائل (قبر مار مارون في براد – مثالا- ) و معاصر جماعية للزيت ، و للعنب ، و للدبس ، و مساكن لتربية وعلف الحيوانات ، و مطاحن للقمح ، و الطحين ، والبرغل مع بيت كبير للإجتماع.

واما سكانها ، فهم من المزارعين الفقراء ، و من الطبقة الوسطى بأغلبية آرامية و مع أقليات إغريقية على أرضية ثقافية سورية ، ودينية مسيحية ، و مجتمع قريب جدا ، لا بل متطابق من المثالية الإشتراكية ، لا بل الطوباوية التي نلحظها بكتاب أعمال الرسل ، ويشترك بها كل اصجاب النظريات العلمية السياسية الحديثة ، وقد أصبحت تلك المنطقة ، مكان جذب للناس الذين تجذبهم قيم المساواة الطبقية والحرية الدينية والعدالة الإجتماعية ، و دون اي تدخل لملوك او أمراء او سلطة كنسية عليا ، ودون أضطهاد واستغلال ، او طبقية.

والثقافة و الحضارة الزراعية التعاونية الإشتراكية الفريدة لمنطقة المدن الميتة و المنسية ، هي حضارة عجزت الأنظمة السياسية التي أتخذت المثالية الإشتراكية و الديمقراطية ، منهجاً ودستوراً عن تحقيقها.

وأما اللغة المتداولة ، فهي الآرامية بلهجتها السورية الجنوبية الفلسطينية لغة (المسيح) وتتكلمها ثلاث قرى في العالم (حتى الآن) وموجودة في سوريا : هي (معلولا – جبعدين – بخعة)، و تقع ضمن جبال القلمون المحيطة بالعاصمة دمشق ، اما لماذا ماتت هذه المدن ، واضحت منسية ، فلها قصة اخرى ، نعود لها لاحقا