لا تستطيع المصارف اللبنانية أن تدّعي أنها تمتنع عن رد أموال المودعين إليهم لأن الدولة وضعت يدها على هذه الأموال .
الحجة التي تلجأ إليها المصارف متعددة الأوجه:
الوجه الأول لاأخلاقي ولاقانوني لأن سوء الأمانة حيال المودعين الذين ائتمنوها على ودائعهم تكمن في أنهم لم يفوّضوها إعطاء 75 بالمائة منها أو ثُلْثَيْها إلى السلطة التي تمسك بها عصابة متعددة العصابات ومتعددة الطوائف.
الوجه الثاني مالي وهو أن المصارف اللبنانية حققت أرباحا بمليارات الدولارات من فوائد تسليفها للدولة سواء اسمها الدولة أو مصرف لبنان..
الوجه الثالث يستكمل الثاني وهو أن هذه المصارف أي أصحابها من حمَلَةِ الأسهم الكبار حوّلوا أموالاً بالمليارات إلى الخارج قبل وبالتزامن مع تحويل السياسيين لأموالهم إلى الخارج وبالتواطؤ مع المصارف. كنتُ أتمنى وبإصرار أن أقول: بعض المصارف وليس كلها. لكن ما يحدث ولا يختلف عليه اثنان أن جميع المصارف تتخذ الإجراءات نفسها حيال المودعين من الامتناع عن تسليم المودعين ودائعهم والحجر عليها ناهيك عن قيامها جميعا، مع بعض الفروقات الطفيفة، بتقنين مذل لتسليم الدولار إلى المودعين وخصوصا أصحاب الودائع بالدولار. إذن تضامن المصارف الكامل يمنع التمييز بينها في غياب أي شفافية تُمارَس من قبل الدولة والقضاء، لنفهم ونتأكد أن هناك مصارف سيئة ومصارف جيدة. بالنتيجة هي المسؤولة عن تعميم الصورة السيئة عن المصارف خلافا لما يهمس في أُذنِك بعضُ المصرفيين القديرين عن أنه يجب مساءلة المصارف التي خالفت القانون أو أساءت الأمانة لا جميعها، مع العلم أن وجود مليارات الدولارات الموظفة خارج لبنان هو حقيقة تشمل جميع المصارف بلا استثناء.
مطالعة استقالة ألان بيفاني مدير عام وزارة المالية قبل يومين، كما حواره التلفزيوني مع ألبير كوستانيان أمس الأول يكشفان بوضوح هذه الأوجه الثلاثة.
لكل هذا، صار تغيير النظام المصرفي جزءا من عملية تغيير الطبقة السياسية. إنها عملية التغيير التي يُفترَض أن تُشكِّلَ المساءلةُ السياسيةُ والملاحقةُ القضائيةُ والمعاقبةُ الجنائيةُ جزءا لا يتجزّأ منها.
في المراحل السوداء التي غالباً ما يكون النهب والتزوير فيها مكشوفَيْن يتحول السياسيون إلى نوع من الحيوانات الهجينة التي ليس لديها سوى “تلطيف” مشاريع افتراسها للعامة. نحن نشهد حاليا عملية تلطيف مذهلة تقوم على جعل ضحايا “المذابح” الجَماعيّة للانهيار المالي والاقتصادي يتعوّدون تدريجياً على الطاعون الاقتصادي الذي يصيب بلدا منكوبا ينضم إلى كل بلدان سايكس بيكو المنكوبة في سوريا والعراق وفلسطين وليس إسرائيل طبعاً التي يزدهر بنيانها السياسي والعسكري والتحديثي.
لا يستوي توصيف الانهيار اللبناني الجاري دون رؤية انهيار المنطقة. لكن المادوفية (نسبةً إلى برنار مادوف) اللبنانية التي تحمي النظامَ السياسي ويحميها تتحمّل حاليا مسؤولية تعريض الكيان اللبناني إلى خطر بنيوي. هنا تلتقي المسؤولية المالية مع المسؤولية السياسية لقاءً تاريخيا في مائوية الكيان اللبناني. فلم يسبق للمال، بما هو شبكات مصالح هاربة من الكيان أن لعب هذا الدور في تقرير مآلٍ كياني كما يلعب اليوم.
سنشهد في الأيام والأشهر والسنوات الآتية تقدّمَ أبطال مزيّفين وأبطال حقيقيّين إلى واجهة الشأن العام وسيكون على الجيل الذي أطلق أكبر صرخة معنوية في وجه نظام سياسي آيل إلى الانحطاط، جيل 17 تشرين، أن يتحمّل ما يبدو أنه لا طاقة له على احتماله: إنقاذ الكيان وهو غير القادر على تغيير النظام السياسي.
صار الكيان اللبناني أشبه بامرأة جميلة ترتدي ثوباً متّسخا. طرح جيل 17 تشرين تحريره من هذا الثوب لكنه اصطدم ويصطدم بانتقال جراثيم الثوب إلى جسد الكيان مما يهدد حاليا كل أعضائه في التعليم والاستشفاء والصحافة والنشر، وحتى الطبيعة الخلاّبة لجغرافياه باتت مهددة كما أظهرت أزمة النفايات التي لا تزال مستفحلة..
خرجت الثورة النظيفة من تراكم النفايات التي فضحت عجز الطبقة السياسية. نفايات جعلت الطبقة السياسية تختبئ ولو لمدة وجيزة في مستوعبات ألعابها الطائفية ولا تخرج، كما الجرذان، إلا عندما تخلو شوارع 17 تشرين. نعرف أن التعميم ظالم بين السياسيين لكن تخصيص “الطبقة” ولو متعددة الطبقات، يحرِّرنا من عبء التعميم ويخصِّص حيث يتلاشى الفارق بين التعميم والتخصيص في رحاب نظام سياسي يقدّم نفسه كأنه جزء من مكونات الكيان. كأنه لا ينفصل عنه في الرحم الذي ولّده.
الرحاب ضاقت ولم تعد رحبة مع انتقال الأمانة، أي أمانة المجتمع والدولة، إلى جيل حاكم خرّجَتْه “أخلاق” الحرب الأهلية. والنزاهة تتطلب الاعتراف أن تلك “الأخلاق” أصابتنا جميعا حتى خلنا أن هذا الفساد بأكبَريْهِ وأصغَرَيْهِ هو نمط حياة لا يخضع لفكرة الاقتراف القصدية التي قامت عليها كل مفاهيم الجريمة الفردية.
تحت وطأة الأزمة الانهيارية لم يفقد لبنان طليعيّتَه مع بداية العشريّة الثالثة من القرن الحادي والعشرين فحسب، بل يكاد يفقد حتى مئويّتَه الأولى أي ماضيه إذا جاز التعبير. صحيح أن الذاكرة اللبنانية تختزن حروباً أهليةً ومجاعاتٍ وانهياراتٍ هي التي تصنع وحدته ومخيلته الجماعية المهتزّة دائما على قياسات قلق تكويني عميق لجماعاته، غير أن ما كان يحميه دائما هو قوة الفكرة الافتراضية عن تميّزِه وهي بالضبط الفكرة المهددة حاليا. لا نعرف من اليوم ماذا سيوصف هذا الجيل من السياسيين الذين يديرون نكبتنا الحالية؟ لكن المرجّح أن صفة الناهب للمال العام ستلازمهم كما ستلازم “المادوفيةُ” الطبقةَ المصرفية التي تواكبهم.
إننا لا نفتقد الجنرال غورو البطريرك حويك وميشال شيحا وإميل البستاني في مزيج زَمَنَيْ 1920 و1943 التكويني والاستقلالي بل نفتقد أيضاً بشكل رئيسي لرؤيوي مصرفي واقتصادي كبير مثل مؤسس بنك مصر بل مؤسّس الصناعة المصرية طلعت حرب . فكما يختبئ السياسيون اللبنانيون هذه الأيام يختبئ المصرفيون وراء أسوار محصّنة ومصالح صارت في الخارج.
لن تخدعنا البيانات والتصريحات، فمن دون مساعدة خارجية لا يمكن تحريك آلة تسليط الضوء على أموال الخارج. لجنة دولية لدعم القيام بهذه المهمة كما اقترح ألان بيفاني باتت ضرورة لا غنى عنها رغم كل محاولات الطمس.
هل يخدمنا الخارج الغربي ويساعدنا في الكشف أم تخضع الرساميل المهرّبة إلى “لعبة أمم” لا تتوافق مع منظومة القيم الغربية في دولٍ هي دول القانون ومكافحة الفساد؟ حين تصف السفيرة الأميركية في بيروت الدين العام اللبناني بأنه الدين الثالث الأضخم في العالم تكون التهمة الحقيقية لها ليس التدخل في الشأن “الداخلي” اللبناني، بل عدم التدخل الكافي، أو التقصير في التدخل لأن الرأي العام اللبناني وجيل 17 تشرين يطالبان المجتمع الدولي بالمساعدة الفعالة لكشف الأموال المهرّبة إلى الخارج.
شهدت نيويورك برنار مادوف واحداً خلال الأزمة المالية الكبيرة عام 2008. كم مادوف لدينا في بيروت عمليا في أزمة 2019 – 2020. هذا دون أن نحتسب السياسيين؟
“النهار”اللبنانية