لم يصمد وقف النار في ناجورنو كاراباخ كثيراً، فالاتفاق الذي وقعه في موسكو وزيرا خارجية أرمينيا وأذربيجان برعاية وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف، لإجلاء القتلى وإسعاف المصابين لم يصمد سوى لساعات.
كان واضحاً في عقد المفاوضات على هذا النحو، أن روسيا تسعى لأن تكون الراعي الوحيد للمفاوضات والناظم الوحيد للأزمة، بمعزل عن قدرتها على ترجمة ذلك على الأرض.
والصراع الذي انفجر دموياً قبل عشرين يوماً، عكس تعقيدات في النزاع أكبر من تلك التي كانت قائمة في مطلع التسعينات، فأذربيجان التي خرجت من تفكك الاتحاد السوفيتي ضعيفة وخسرت حربها مع أرمينيا ومع كاراباخ، لم تعد كذلك، وتمكنت من إقامة جيش قوي عديداً وعتاداً. وقد حصلت على السلاح من دول متعددة مثل روسيا نفسها، وإسرائيل وتركيا. وربما تعمل باكو على أن تكون قوة إقليمية في القوقاز، خصوصاً أنها تمتلك عوامل هذه القوة من ثروات نفطية وتسلح حديث، وموقع يتوسط إيران وروسيا وأرمينيا وتركيا وحوض قزوين.
لكن الدور التركي في رسم الأطر الميدانية والسياسية للتحركات العسكرية الأذربيجانية يبقى هو المتحكم في السلوك الأذربيجاني؛ إذ على الرغم من صعود القوة الأذربيجانية، فإنها تبقى قاصرة عن التحرك الجاد من دون الدعم التركي. وقد استبقت تركيا الحرب على أرمينيا وكاراباخ بتنسيق كامل مع باكو وبمناورات عسكرية ما إن انتهت حتى كانت الحرب تبدأ في جاهزية أذرية كاملة وتدفق للمرتزقة السوريين من إدلب عبر تركيا إلى أذربيجان. وإذا كانت الحرب حققت، حتى الآن، مكاسب ميدانية، ولو محدودة، لباكو ومن خلفها أنقرة، فإن الصراعات والحروب تقاس في النهاية بنتائجها السياسية.
وقد عملت أنقرة منذ البداية على أن تكون مغامراتها القوقازية الجديدة التي تضيفها لمغامراتها السابقة في سوريا والعراق وليبيا وشرق المتوسط، جزءاً من مشرع العثمانية الجديدة، وربما «ما بعد العثمانية الجديدة» لجهة بسط الهيمنة وتوسيع شعاع الحضور والنفوذ. وإذا كانت مناطق المغامرات السابقة تقع ضمن الدولة العثمانية البائدة، فإن القوقاز كان خارجها، وبالتالي قد نكون أمام رفع سقف الطموحات التركية لتتجاوز حتى حدود التاريخ العثماني، والعين هذه المرة على القوقاز.
الترجمة السياسية للتقدم الميداني الأذري التركي لم تتحقق بعد. ليس من السهولة على قيصر موسكو الجديد أن يقبل بأن يقاسمه النفوذ في القوقاز – وهي حديقة روسيا الخلفية بامتياز باديشاه جديد كان قد انهزم في 12 حرباً مع روسيا، ويأتي الآن ليحاول كسر التقاليد الموروثة.
كان الرئيس فلاديمير بوتين يدرك نوايا أردوغان وفتحه جبهة القوقاز في وجه روسيا، لذلك عندما بدأت محادثات وزيري خارجية أذربيجان وأرمينيا لوقف إطلاق النار، استبعدت موسكو تركيا من المشاركة فيها على الرغم من مطالبة باكو بذلك. الكلمة الأخيرة كانت لبوتين. وكان بذلك يوجه رسالة صدّ لتطلعات تركيا لتقاسم النفوذ في القوقاز.
ولقد فهمت أنقرة الرسالة جيداً وانزعجت منها، فكان تصريح مولود تشاويش أوغلو، وزير خارجيتها، بأن أي وقف لإطلاق النار ليس بديلاً لمفاوضات حل دائم. وعملت أنقرة على التشويش على جهود موسكو، من خلال رفض وقف إطلاق النار واستمرار الاشتباكات متقطعة تارة وعنيفة تارة أخرى. ولا شك في أن معركة القوقاز فتحتها أنقرة عبر أذربيجان ليس لتغلق بسرعة؛ بل لتبقى جرحاً مفتوحاً يستنزف طاقة وجهد موسكو ويشغلها عن التفرغ لملفات أخرى، وللضغط عليها، حيث أمكن ذلك في ليبيا أو سوريا.
لذلك فإن معركة القوقاز هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، سواء بالنسبة لأذربيجان أو تركيا، وهي الأولى بالنسبة لأنقرة في هذه المنطقة منذ عام 2016، بعد توسعاتها شمالي سوريا وتمركزاتها شمالي العراق وتدخلاتها في ليبيا، وتهديداتها في شرق المتوسط ومشاغباتها في لبنان، كما هي الأولى لباكو بعد زيادة قدراتها العسكرية.
وإلى أن تحقق تركيا مكاسب سياسية ما في القوقاز أو غيرها، فإن التوتر والصدام سيستمران بطريقة أو بأخرى في القوقاز، ما لم تلجم بصورة حاسمة التطلعات ال«ما بعد عثمانية الجديدة» لباديشاه أنقرة.
“الخليج “الاماراتية