ليست سابقة تاريخية ولا سياسية أن تنتشر فكرة الفيدرالية كمشروع نظام سياسي لتكوين الدولة اللبنانية، فهي فكرة لطالما برزت بين الفينة والفينة، وبخاصة مع ارتفاع منسوب الخلافات الداخلية حول قضايا مختلفة في الحياة السياسية اللبنانية. وإذا كانت هذه الفكرة اقتصر مؤيدوها على فئة محددة من الشعب اللبناني أو فئة سياسية بعينها، فإن هذه المطالبة بدأت تتمدد وتدخل في غير مشروع، بل بات لها تنظيم سياسي له اتصالاته ومؤيدوه على الساحة اللبنانية.
ولبنان الذي يحتفل هذا العام بمئوية إنشاء كيانه، يواجه تحديات من نوع مختلف، وهي بطبيعة الحال تحديات سياسية واقتصادية تمتد لتطال بنية الدولة ومؤسساتها، وصولاً إلى طبيعة النظام السياسي الدستوري، الذي يرتبط بشكل مباشر بوحدته أو الذهاب إلى أشكال أخرى للنظام، ومن بينها الفيدرالية، وربما وصولاً إلى الكونفدرالية.
وإذا كانت بعض النظم الدستورية السياسية التصقت عملياً بالمجتمعات المتعددة، فإن للفيدرالية أسساً وشروطاً ينبغي أن تتوافر فيها، وفي المجتمع الذي يراد تطبيق النظام فيه، فهل يشكل النظام الفيدرالي حلاً لمجموعة المشاكل اللبنانية الكبرى؟ أم أن هذا المشروع لا يعدو مناسبة لإطلاق حفلة احتراب جديدة، إما لتمريره أو لتمرير مشاريع كبرى في المنطقة يكون هذا المشروع غطاءً لها؟
في المبدأ، وعبر مقاربات سياسية ودستورية عديدة، تبيّن أن النظام الفيدرالي في المجتمعات المتعددة، يمكن أن يشكّل مدخلاً لإعادة ترتيب البنى السياسية والاجتماعية، كما يمكن أن يؤمن بيئات مناسبة للتقليل من أسباب الصدامات والمشاكل والتداعيات الناجمة عنها، أقله أولاً، أن يتم القبول به ويتفق على أطره العامة، لا أن يكون سبباً للاحتراب والصدامات. وثمة من ينتصر لهذا المشروع، ويدافع عنه على اعتبار بدء القبول به وتطبيقه في غير بلد عربي في المنطقة، كاليمن والعراق وحالياً يتم التداول به في سوريا، وهنا ما ينبغي التوقف مثلاً عنده، وهو اشتراك جميع هذه الدول بمظاهر الصدامات الداخلية والحروب الممتدة، وبالتالي جيء بهذا النظام كمشروع لإنهاء الصدامات، بينما التدقيق في الأمر يظهر خلفيات أخرى، من بينها إنهاء الدولة الموحدة، وربما الوصول إلى مرحلة تفتيت الكيانات بعد تطبيق النظم الفيدرالية، إذ ثمة مظاهر وأسس ينبغي التوكيد فيها، فمثلاً إن الأنظمة الفيدرالية تسهم في تكوين وحدة النظام الجديد، بعدما كان مفتتاً أو متعدداً في الأساس، كالولايات المتحدة الأمريكية التي تشكل النموذج الأبرز لذلك، إلا أن من الصعوبة بمكان أن يكون الأمر معاكساً، أي يتبع النظام في نظام موحد. فثمة من يعتبر أنه سيؤدي إلى تفتيت الدولة، وتقسيمها بين مجموعات مختلفة، ربما تتابع صداماتها لاحقاً، ويكون الأمر أشد خطورة في هذه الحالة.
وثمة أيضاً من ربط المطالبة بالنظام الفيدرالي في لبنان بنظام الحياد في القانون الدولي، واعتبرهما موضوعين متلازمين، تمتد آثارهما على الصراع العربي – «الإسرائيلي»، وموقع لبنان ودوره فيه، ومن هنا تأتي في الأساس معارضة بعض الفئات اللبنانية لهذا المشروع. وفي أي حال من الأحوال تظل الكثير من المظاهر التي تربط هذين المشروعين لجهة الخلفيات والتداعيات على مجمل طبيعة النظام في الداخل ومظاهر علاقاته بالخارج وقضاياه، ومن بينها الصراع مع «إسرائيل».
بالتأكيد لبنان بحاجة اليوم إلى البحث عن مشروع حل لأوضاعه الداخلية وقضاياه التي لا تنتهي، وأيضاً لمواقفه من العديد من القضايا التي تجري حوله، ففي مئوية إنشاء كيانه هناك ألف سبب وسبب لاستمرار الصدامات واستنزاف الموارد والطاقات، وبصرف النظر إن كانت الفيدرالية واستطراداً الحياد القانوني مدخلاً لاستمرار الكيان بشكل مغاير، فإن ما يواجهه الشعب اللبناني بمختلف أطيافه، يصل إلى حد الإبادة الجماعية من خلال انهيار الوضعين الاقتصادي والمالي، والتصادم الاجتماعي، وانفلات الأمور من عقالها، ولا سيما أن ما حدث مؤخراً، وكأنه مؤشر لإطلاق حفلة جنون من الصعب توقّع أو ضبط مساراتها أو نتائجها. وبصرف النظر عن هذه الصورة السوداوية ثمة من يقول: إن لبنان يستحق الحياة والاستمرار بصرف النظر عن أي نظام سيحتوي تناقضاته التي لا تنتهي.
“الخليج”الاماراتية