aren

العلمانية الفرنسية … ليست البتة “الدين العلماني” بقلم المؤرخ /فاروق مردم بيك/
الإثنين - 21 - ديسمبر - 2020

رجل دين يقود صلاة عيد الأضحى المبارك في مسجد مريم في مدينة كاين شمال غرب فرنسا وسط رقابة أمنية فرنسية خارج المسجد – 31 يوليو 2020

(خاص)

التجدد الاخباري

ننشر هنا هذه المقالة، التي وصلتنا عبر بريد الموقع الخاص ، وهي تعد “مادة توضيحية” هامة بقلم المؤرخ السوري المرموق “فاروق مردم بيك” عن العلمانيّة الفرنسيّة

نص المقالة-

من المعروف أنّ فرنسا، خلافاً للدول الأوروبيّة الأخرى، وخصوصاً الدول ذات التراث البروتستانتي، تفصل الدين عن الدولة ، فصلاً تامّاً. وقد نظّم قانون 9 كانون الأوّل 1905 ، العلاقة بين الطرفين على أسسٍ واضحة وحصيفة ولاعلاقة لها بالأوهام السائدة في كثيرٍ من الأوساط الإسلاميّة ، وغير الإسلاميّة.

ما هو مضمون هذا القانون؟

جاء في المادّة الأولى:

“تكفل الجُمهوريّة حرّيّة الضمير، وتضمن حرّيّة ممارسة الشعائر الدينيّة “.

وتؤكّد المادّة الثانية مبدأ حياد الدولة إزاء جميع الأديان فهي:

“لا تعترف بأيّ دين”، ولا تموّل أيّ دين، ولا تًسدّد أجوراً لرجال الدين.

ويُحدّد القانون في الموادّ التالية ، مآل الممتلكات والمباني الدينيّة، ثمّ قواعد تنظيم الجمعيّات الأهليّة المُخوّلة بإقامة الشعائر الدينيّة، وأهمّها استقلال هذه الجمعيّات، أي منع الدولة من التدخّل في شؤونها الداخليّة (المادّة الرابعة)، ويُعاقب الذين يُعرقلون إقامة الشعائر الدينيّة (المادّة 32).

ما لا يحقّ للمؤسّسات الدينيّة:

تُمنع الاجتماعات السياسيّة في المباني الدينيّة (المادّة 26).

تُمنع الرموز الدينيّة في المباني الرسميّة وفي المؤسّسات العامّة كافّةً باستثناء الأماكن المُخصّصة للعبادة والمدافن والأضرحة والمتاحف والمعارض (المادّة 28).

يُعاقب المسؤولون عن إقامة الشعائر الدينيّة إذا أساؤوا في خطبهم أو قراءاتهم أو ملصقاتهم أو المنشورات التي يوزّعونها في الأماكن المُخصّصة للعبادة إلى أيّ مواطن يُمارس وظيفة رسميّة (المادّة 34).

يُعاقب أيّ مسؤول عن إقامة الشعائر الدينيّة إذا دعا في أماكن العبادة إلى التمرّد على القوانين أو ألّب بعض المواطنين على مواطنين آخرين (المادّة 35).

ليس في هذا القانون إذاً ، أيّ مبدأ يمنع المسلمين الفرنسيّين من ممارسة شعائر دبنهم بحريّة، ولكنّه يمنعهم، كما يمنع المؤمنين بالديانات الأخرى، من خلط الدين بالسياسة، ومن انتهاك قوانين الجُمهوريّة باسم دينهم.

ليس القانون في حدّ ذاته سبب العلاقة المُلتبسة بين الدولة الفرنسيّة والمُسلمين المُتديّنين (ولا أعني الإسلاميّين بمُختلف نزعاتهم)، ولم أسمع حتّى الآن أنّ أحداً منهم طالب بتعديله.

المُطالبون بالتعديل ، هم الذين يُريدون أن تتخلّى الدولة عن حيادها الديني ، وأن تتدخّل في شؤون الدين الإسلامي، – بعضهم يُطالب بذلك عن باطل بدافع العنصريّة ورهاب الإسلام ، ويستصدر من الجمعيّة الوطنيّة ، قوانين “علمانيّة” جديدة، وبعضهم عن حقّ.

هؤلاء يرون ضرورة استقلال المسلمين عن الدول التي تستتبعهم ماليّاً (وسياسيّاً) ، مثل : الجزائر والمغرب والسعوديّة وإيران ولبيبا في أيّام القذّافي، وكذلك عن جماعات الإسلام السياسي، وهم غير قادرين عليه إذا لم تتوفّر لهم مؤسّسات محلّية تُعنى بالدراسات الشرعيّة ، وتأهيل الأئمّة وبناء المساجد إلخ بصورة تضمن لهم ممارسة شعائر دينهم بكرامة باعتباره حاجة روحيّة وليس عقيدة سياسيّة.

ولكنْ كيف تتوفّر لهم مثل هذه المؤسّسات في أوضاعهم الحياتيّة الصعبة إذا لم تُساعدهم الدولة – وقانون 1905 يمنعها في مادّته الثانية من التدخّل في شؤونهم ؟

مضت سنواتٌ طويلة على طرح هذه المسألة ، ولم تسعَ الحكومات المُتعاقبة منذ سبعينات القرن الماضي إلى مُعالجتها بحكمة، مع أنّ قانون 1905 نفسه يتضمّن مادّة تستثني بعض الحالات ، ويُمكن تفسيرها على نحوٍ يسمح للدولة ببعض “الحياد الإيجابي” في شأن تمويل المؤسّسات الدينيّة الإسلاميّة – كما أُهملت غيتويات الضواحي ، حيث تتردّى الأوضاع المعيشيّة يوماً بعد يوم ، وحيث صار الإسلام ديناً احتجاجياً ، يسهل للدعوات الجهاديّة اختراقه.

لذلك كلّه ما زلت أعتقد، على الرغم من الرياح المجنونة التي تعصف بنا في هذه الأيّام، أنّ العلمانيّة الفرنسيّة التي لا تعني في مفهومها القانوني إلّا فصل الدين عن الدولة، وفيه مصلحةٌ للطرفين، ليست “الدين العلماني” الذي يتردّد على ألسنة (درمانان وبلانكيه وشيابا) وغيرهم من وزراء ماكرون، وتُبشّر به بعدوانيّة ، وغباء وسائل الإعلام الفرنسيّة..

وليست بأيّ حال شارلي إيبدو !

ردّاً على سؤال صديقة سوريّة عن المسلمين في فرنسا، هذه بعض المعلومات التي كنت قد سجّلتها في أواخر 2019.

أوّلاً، ليس بالإمكان تحديد عدد المُسلمين في فرنسا بدقّة إذ لا يحقّ لدائرة الإحصاء المركزٍيّة سؤال المواطنين والمُقيمين الأجانب عن دينهم. نقع دائماً على أرقام متضاربة، بحسب المعيار الذي اعتُمد لتعريف المسلم. فوزارة الداخليّة مثلاً تعتبر أنّ المسلمين هم جميع الآتين أو الذين أتى آباؤهم أو أجدادهم من دولة ذات أكثريّة مسلمة، ومراكز الأبحاث تستند إلى استطلاعات الرأي العام، ولكلّ استطلاع معياره، فهل المقصود عدد جميع الذين يُعرّفون أنفسهم بأنّهم مسلمون ؟ وهل هذه الصفة في تعريفهم لأنفسهم دينيّة فحسب أم اجتماعيّة أم ثقافيّة أم إثنيّة (بمعنى أنّهم ليسوا من أصول فرنسيّة قديمة)؟

لذلك تتراوح التقديرات بين أربعة وستّة ملايين نسمة (أي بين 6% و9% من عدد السكّان في البلاد، والفرق شاسع بين النسبتين)، منهم مليونان يُفترض إنّهم مؤمنون ويُمارسون شعائر دينهم،. وللمُقارنة، لا تتجاوز نسبة المسيحيّين البروتستانتيين بجميع كنائسهم وفقاً لهذه المعايير التقريبيّة 3% ونسبة اليهود 06%. ومن نافل القول إنّ جميع المسلمين من أصولٍ أجنبيّة: 82% من الجزائر والمغرب وتونس، 9% من إفريقيا السوداء و8% من تركيا.

ثانياً، ربّما كان أوسع استطلاعٍ عن أوضاع المسلمين في فرنسا (مع التحفّظ الضروري في شأن أيّ استطلاع) هو الذي أجرته مؤسّسة إيفوب في 2014 بتكليفٍ من معهد مونتين الليبيرالي. قدّر التقرير الذي صدر آنذاك عدد المسلمين بأقلّ من أربعة ملايين نسمة، وهو أدني الأرقام المُتداولة، 84% منهم لم يبلغوا سنّ الخمسين، أي أنّهم مجموعة سكّانيّة شابّة، ومتوسّط أعمارها أقلّ بقليل من 36 سنة. تبلغ نسبة غير المُتديّنين 46%،  ونسبة المُتديّنين الذين يؤكّدون اندماجهم في المُجتمع الفرنسي واحترامهم للتقاليد العلمانيّة الفرنسيّة 25%، في حين أن 28% ، نصفهم من الشبّان (أقلّ من 25 سنة)، مُتشدّدون في إسلامهم، لا يرفضون حتّى النقاب وتعدّد الزوجات. وأشار التقرير إلى أنّ 60% من المسلمين، على اختلاف حساسيّاتهم الدينيّة، يعترضون على منع الحجاب في المدارس, (مُقابل 37% من غير المسلمين)، ولكنّ ثلث المسلمات فقط مُحجّبات..

ويُستخلص من التقرير أيضاً، أنّ أغلب المسلمين، أكانوا مُتديّنين أو لا، يؤثرون اللحم الحلال في طعامهم (للمُقارنة: 15% فقط من اليهود يستهلكون الأغذية التي أجازها “بيت الدين” اليهودي – كاشير). ولا غرابة في أن يُظهر التقرير تدنّي أوضاع المسلمين الاقتصاديّة، فهم إجمالاً أفقر من غيرهم من الفرنسيّين، ولكنّ 55% منهم يعملون وفق عقودٍ قانونيّة غير محدودة زمنيّاً، و10% موظّفون في مؤسّسات حكوميّة، و4% كادرات متوسّطة وعُليا. ومن المُلاحظ أنّ عدد حملة الشهادات الجامعيّة يزداد بانتظام (أكثر من 10% في 2014).

ثالثاً، عدد المساجد في فرنسا، بحسب وزارة الداخليّة، نحو 2500، ولكنّ أقلّ من مائة منها تتجاوز مساحتها 1000 متر مربّع، وأغلبها أُنشئت في حجراتٍ سكنيّة ضيّقة ممّا يُسببّ في كثيرٍ من الأحيان مشاكل مُعقّدة مع الجوار، كما أنّ أغلب الأئمّة غير مؤهّلين، والمؤهّلون شرعيّاً (300 إمام) غرباء عن فرنسا، عيّنتهم حكومات الجزائر والمغرب وتونس وتركيا، ولم تؤسّس الدولة الفرنسيّة حتّى الآن معاهد محليّة للاستعاضة عنهم على الرغم من الكلام الذي بتردّد منذ أكثر من ثلاثين سنة في هذا الخصوص. وتتضارب الأرقام حول نسبة المسلمين الذين يُصلّون في المساجد يوم الجمعة، إذ تتراوح بحسب التقديرات  بين 16% و25% من مجموع المسلمين “المُعلنين”- ولا تتجاوز نسبة الذين يؤمّونها كل يوم 5%.

رابعاً، لا شكّ في أنّ المسلمين الفرنسيّين يميلون أكثر فأكثر إلى المُشاركة في الحياة السياسيّة، وقد برزت في السنوات الأخيرة بعض الشخصيّات ضمن الأحزاب الكُبرى، اليساريّة واليمينيّة، وانتخب بعض المسلمين، أو لنقل ذوي الأصول الإسلاميّة، اعضاء في المجالس البلديّة وفي الجمعيّة الوطنيّة، وشغل بعضهم أيضاً مناصب وزاريّة. وتُبيّن استطلاعات الرأي العام أنّ الناخبين المسلمين تتوزّع أصواتهم بين المرشّحين، مع تفضيل مؤكّد لليساريّين. فبحسب مؤسّسة إيفوب للاستطلاع، صوّت المسلمون “المؤمنون” في 2012 لفرنسوا هولاند مرشّح الحزب الاشتراكي بنسبة 59% في الدورة الأولى، و93% في الدورة الثانية ضدّ منافسه ساركوزي. وفي الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة (2017) توزّعت أصواتهم في الدورة الأولى  كما يأتي: 39% لميلانشون واليسار الراديكالي، و17% للمرشّح الاشتراكي هامون، و24% لماكرون، و13% لفيّون (الحزب الجُمهوري اليميني)، و5% لمرشّحة اليمين المُتطرّف مارين لوبن. وفي الدورة الثانية حصد ماكرون ضدّ لوبن، كما كان يُمكن توقّعه، جميع أصوات المسلمين. وجديرٌ بالذكر أنّ مُحاولات تأسيس أحزاب طائفيّة إسلاميّة باءت بالفشل.

خامساً، نّشر ت في أواخر 2019 نتائج استطلاعٍ أجرته مؤسّسة إيفوب عن العنصريّة المعادية للمسلمين، وذلك بطلب من لجنةٍ وزاريّة مُختصّة ومن مؤّسّسة جان جوريس التابعة للحزب الاشتراكي. أكّد 42% من أفراد العيّنة إنّهم تعرّضوا على الأقلّ مرّة في حياتهم للتمييز الديني، إمّا من قبل البوليس وإمّا في أثناء البحث عن عمل أو عن سكن. ويتبيّن من الاستطلاع أنّ النساء أكثر تعرّضاً للتمييز الديني من الرجال، وبالأخصّ المُحجّبات. 24% من أفراد العيّنة سبق لهم أن شُتموا أو أُهينوا بسبب دينهم (مُقابل 9% من غير المسلمين) و7% اعتُدي عليهم جسديّاً (مُقابل 3% من غير المسلمين). ويُمكن ملاحظة تحوّل العنصريّة تدريجيّاً من العداء للعرب أو للسود إلى العداء للإسلام، وذلك منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي حين بدأ استغلال موضوع الهجرة المغاربيّة الدائمة إلى فرنسا  من قبل اليمين المُتطرّف.

وشاركت بعض “النُخب الجُمهوريّة ” طوال الثمانينيات في تأجيج العداء للمسلمين باسم العلمانيّة، خصوصاً بافتعال قضيّة قوميّة حول  الحجاب (1989) واستصدار قانون بشأنه من البرلمان (2004)، كما افتعل ساركوزي في حملته الانتخابيّة معركة “الهويّة الوطنيّة” (2007) ، وأصرّ بعناد على خوضها بعد انتخابه رئيساً للجُمهوريّة، مستفزّاً حتّى المسلمين الأكثر اندماجاً في المُجتمع الفرنسي، وتبعها سجالٌ مسموم حول وجبات اللحم الحلال في المدارس، إلخ. إلّا أنّ أشنع عدوان على جميع المسلمين في فرنسا ، كان العمليّات الإرهابية ، التي ارتكبها شبّانٌ مسلمون ، باسم الإسلام ( مقتلة شارلي إيبدو ثمّ مسرح الباتاكلان في 2015 ، وغيرهما).

هذه المقالة تعبر عن رأي صاحبها