يُخطئ من ينظر إلى العقوبات «الأحادية الجانب» فقط من خلال نصها… بالرغم من أهمية هذا النص. فمن هي الدولة الجارة المقصودة في نص قانون «قيصر» حين ينص على دعم الانتقال إلى حكومة فى سوريا «تتعايش سلميا مع جيرانها»…
إن الأمور أبعد من ذلك من حيث واقع العقوبات… فمهما كان نص هذه العقوبات وحتى إن لم تدخُل فعلا حيز التنفيذ، فإن الشركات والمصارف تتخذ إجراءات وقائية تجعلها تتوقف عن التعامل مع الدولة «المعاقبة» وأفرادها ومؤسساتها حتى الخاصة غير الحكومية منها احترازيا. هذا الأمر يُطلق عليه تقنيا تعبير «الإفراط في الالتزام» overــcompliance.
هكذا لا شيء في نص العقوبات الأمريكية أو الأوروبية السابقة يمنع سورى الجنسية من فتح حسابٍ مصرفيٍ في بلدٍ ثانٍ، مثلا إذا كان طالبا أو لاجئا. لكنه لا يستطيع ذلك غالبا لأن المصارف تتخوف من العقوبات ومن جهد وكلفة التحقق من أن الشخص المعنى لا تطاله يوما ما قائمة العقوبات وبالتالي أن تعاقب الإدارة الأمريكية اعتباطيا المصرف لفتحه الحساب بمبالغ طائلة. كذلك لا يطال نص العقوبات الأمريكية والأوروبية المصارف الخاصة في سوريا، لكنها في أغلبها لا تستطيع أن تجد مصرفا «مراسلا» في أوروبا تستطيع من خلاله دفع قيمة بضاعة يتم شراؤها لسوريا، حتى لو كانت هذه البضاعة لأغراض إنسانية وحصلت بعد إجراءات معقدة وطويلة على موافقة «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» OFAC في وزارة المالية الأمريكية الذي يجب أن يصادق حُكما على تصدير هذه البضاعة. أضِف أن سوريا لا تستطيع استيراد النفط ومشتقاته نفطية لإنتاج الكهرباء ولتأمين النقل، رغم أن العقوبات تنص على منع تصدير النفط وليس استيراده، وأن ميزان النفط ومشتقاته سلبي بشكلٍ كبير في سوريا وبشكلٍ أكثر منذ أن دمرت داعش معظم المنشآت. وحتى مصر لا تتمكن من تصدير غاز أو كهرباء إلى سوريا… ولبنان بالتالي… عبر الخط العربي الذي يمر بالأردن.
وتنطبق الإجراءات الاحترازية «المفرِطة» أيضا على منظمات الأمم المتحدة وما يترتب على ذلك من تعقد عمليات الإغاثة. إلا أن هذه المنظمات الكبرى لها نوعٌ من القدرة على التفاوض مع الإدارة الأمريكية لتسهيل أمورها، كي تضحي الإغاثة في النهاية نتيجة تفاوض بين المؤسسة الأممية والإدارة الأمريكية على إجراءات «أحادية الجانب» مرفوضة أصلا في القانون الدولي لأنها لم تصدر عن مجلس الأمن.
وبما أن هناك تفاوضا في خلفية الإجراءات وحول طريقة التعامل مع «الإفراط في تطبيقها» هناك بالتالي سياسات تحكُم الحلول التي يتم اعتمادها، ربما هي التي يجب تتبعها بدقة لأنها تؤسس لما بعد رفع العقوبات. الأمر ذو الدلالة أن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في إيجاد آلية تعامل مالي مع إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، في حين سُمِحَ لتركيا ذلك بما فيه لاستيراد النفط…. وكذلك لم يخضع إقليم كردستان في العراق إلى ذات العقوبات المفروضة على العراق… ما أدى إلى نتائج نرى آثارها الآن. وغضت الولايات المتحدة الطرف عن تجارة الإمارات وقطر مع إيران رغم العقوبات على الأخيرة. وكذلك سُمِحَ للمصارف الخليجية التقليدية والإسلامية في سوريا، البحرينية والكويتية والقطرية، ما لم يُسمَح به للمصارف اللبنانية والأردنية. وحتى قضية فتح الحسابات المصرفية للسوريين اللاجئين في الخارج تنتج عن تفاوض بين حكومة البلد المضيف ومصارفه والإدارة الأمريكية.
كذلك تفاوضت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا على استثناء المناطق الخاضعة لها من قانون قيصر. في حين كانت الولايات المتحدة تغض النظر أصلا عن تصديرها للنفط وللمنتجات الزراعية، بل أحيانا عبر الفصائل التى تتقاتل معها، إلى… تركيا.
والتفاوض، تحت الطاولة في أغلب الأحيان، ليس وحده وسيلة الضغط «خارج النص». إذ أن الحملات الإعلامية والتهديدات المبطنة تدفع أيضا المؤسسات والشركات إلى أخذ إجراءات احترازية «مفرِطة». هكذا تبنت شركات آسيوية كثيرة إجراءات احترازية صارمة حتى قبل أن يُعلِن الرئيس الأمريكي عن كيفية تطبيق قانون قيصر على سوريا. بحيث تم تطبيق القانون حتى قبل أن يُطبق. فىيحين جاءت الحملات الإعلامية والتهديدات لتخلق بلبلة وعدم استقرار في «أسواق» التجارة الخارجية السورية – وأغلبها غير نظامية نتيجة العقوبات السابقة ــ لتدفع المضاربات على العملة، خاصة مع الهشاشة الكبيرة التي أنتجتها الأزمة المالية في لبنان. وبما أن الولايات المتحدة «اكتشفت» اليوم أن اقتصادي لبنان وسوريا مرتبطان عضويا وزاد ارتباطهما مع الأزمة اللبنانية، خلُصت التهديدات بتطبيق قيصر على المؤسسات اللبنانية بحيث بدأت المصارف الخارجية وقف التعامل والمراسلة مع المصارف اللبنانية، التي تعاني أصلا من أزمة خانقة نتيجة تفجر أزمة الدين العام وفساد السلطة. بما في ذلك تلك المصارف المحسوبة على أطراف قريبة من الولايات المتحدة.
تتعالى في مثل هذا السياق أصوات المجتمع المدني وتذهب المؤسسات الخاصة لمساءلة الإدارة الأمريكية عما ترغبه في النهاية؟ هذا مع ترديد الحجة القائلة أن العقوبات لم تُسقِط يوما سلطة استبدادية وأنها تُفقِر الشعوب وتقوض عمل القطاع الخاص. وأن عقوبات بصرامة عقوبات قيصر والإجراءات الاحترازية المُفرِطة التي ترافقها ستؤدي إلى عشرات آلاف الضحايا، وربما مئات الآلاف، الذين ستتحمل الولايات المتحدة مسئولية سقوطهم، كما كان حال العراق أثناء الحصار الجائر عليه. وأن هذا كله يُمكن أن يؤدي إلى فوضى، حتى لو رحلت السلطة القائمة. وهل هذا كله بغية «تغيير سلوك السلطة» القائمة؟ ومن أجل تحقيق هدفٍ هو تقويض إيران؟
لماذا يجب أن تدفع سوريا ولبنان وكذلك العراق ثمنا بشريا باهظا للمواجهة بين الولايات المتحدة ودول الخليج من طرف وإيران من طرف آخر؟ ولماذا أصلا ازداد نفوذ إيران، أليس بسبب سياسات خاطئة، خاصة أمريكية، فى المنطقة؟!
وفيما هو أبعد من ذلك، يبقى هناك سؤال جوهري يستحق الطرح. إن سلاحا اقتصاديا بصرامة قانون قيصر يشكل نوعا من أسلحة الدمار الشامل، يُشهَر للردع وليس للاستخدام الفعلي. ويُعمَل به كي يكون أداة للتفاوض الدولي للخروج من الصراع والفوضى وليس لترسيخها. السؤال هو: هل ستدخل الولايات المتحدة حقا في تفاوضٍ مع روسيا والصين لإخراج المشرق العربى من كارثة محققة؟ أم أنها منهمكة بقضاياها الداخلية وصراعها الاستراتيجى مع الصين، تاركة المشرق يغرق في الجحيم إلى ما شاء الله؟ وفقط ما يهمها مرحليا هو ضم وادي الأردن إلى إسرائيل؟!
“الشروق”المصرية