aren

الطاقة صِفر في السياسة اللبنانية \\ كتابة : جهاد الزين
السبت - 9 - مايو - 2020

لبنان

لا تحصى أخبار واتهامات الفساد في لبنان. مافيات متداخلة ومتصارعة ومتساكِتة ومتناطِقة صار السؤال معها:

هل يمكن بعد لأي إنقاذ أن يحصل؟ ومعه سؤال آخر هل لازال من معنى للكتابة أو التعليق في السياسة اللبنانية. كتابة عن ماذا؟ عن اللامعنى في الكلام عن الفساد أمام هذا الحجم المخيف من مشاركة النخب السياسية وغير السياسية في آليات الاستفادة من الفساد غير الشرعي و”الشرعي”؟

سأثير في السطور التالية بضع نقاط تحتل مكاناً في السجال – الثرثرات التي يعيشها النظام الطائفي اللبناني الفاشل القوي:

1- مع انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية كان من المفترَض أن المنطق الظاهر لنظام ما بعد الطائف في لبنان قد اكتمل. ثلاث رئاسات، الجمهورية، النواب، الحكومة، على كلٍ منها رئيس حزب هو رئيس الحزب القوي في الطائفة ودائمًا هو رئيس الحزب الطائفي في الطائفة. ما يحصل من مماحكات وكيديات بين الرئاسات الثلاث منذ انتخاب عون حتى استقالة سعد الحريري عائدٌ في جزء أساسي منه إلى صعوبة اعتراف رؤساء الأحزاب الرئاسيين في الشارع المسلم بالثمن الذي ينبغي دفعه من نفوذهم من جراء وجود “رئيس الحزب” في الرئاسة الأولى وهو ما كان ناقصاً في العهد السوري. ثغرة وصول حسان دياب إلى رئاسة الحكومة التي أحدثَتْها ثورة 17 تشرين أربكت المعادلة الحزبية لكن في سياق ، الأحزاب الطائفية فيه هي في موقع دفاعي جداً على الأقل على المستوى القِيَمي.

2- فكرة إمكان قيام نظام رئاسي في لبنان كانت ولا تزال فكرة سخيفة في التوازنات التي يرسيها النظام الطائفي سواء كانت الفكرة مجرد تهمة تعبوية في الصراعات المتواصلة يستخدمها البعض ضد البعض الآخر. حتى قبل حرب العام 1975 لم يكن النظام السياسي اللبناني يوما رئاسياً بالمعنى الكامل للكلمة.

3- الاجتماع الذي دعا إليه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يوم الأربعاء المنصرم للتشاور حول الخطة الاقتصادية للإنقاذ هو اجتماع طبيعي وضروري بمنطق أي دولة. ومن المستغرب أن يستخدم تيار المستقبل الحجج التي استخدمها لمقاطعة الاجتماع. أظن أن تيار المستقبل يعاني منذ فترة معضلةَ اختيار اللغة السياسية المناسبة للموالاة أو للمعارضة. هل هي أزمة أشخاص في القيادة، أزمة كفاءتهم السياسية أم هو تخبّطٌ انحسار الموقع التعبوي الذي اعتاد عليه وانتقال الجمهور المديني والريفي، خصوصاً المديني (طرابلس) الذي كان هذا التيار يحركه، إلى اهتمامات واستقطابات جديدة لم تعبّر عن نفسها بعد في أقصى طاقتها. الأسباب كثيرة لهذا التفكك، وأعني هنا الأسباب المتعلقة تحديدًا بالبنية الخاصة للحريرية السياسية، ومنها العجز المالي والخلل المؤذي جدا في العلاقة مع “بلد المنشأ” المملكة العربية السعودية والتكوين المديني المسيطر في هذا التيار (بيروت صيدا طرابلس). صرخات ” رئاسة الحكومة في خطر” التي أطلقها “رؤساء حكومة سابقون” تشبه صرخات “شيعة، شيعة” التي أُطلِقتْ في مونو، الفارق بينهما أن “الحَوْرَبة” الطائفية في الثانية تأتي من تحت والأولى من فوق. وهي “حوربة” تتقنها الأحزاب الطائفية كلها كما كان “الهنود الحمر” يدورون حول النار مطلقين صيحات الاستنفار.

4- في الواقع كل جماهير الطائفيّات الحاكمة تشهد تفككاً جدياً. بعضه عنيف بسبب مساس الأزمة للأحياء الأكثر فقرًا في المدن وبعضُهُ عنفُهُ مضاد يأتي من استنفار تنظيمي أمني لعزل هذا الجمهور أو عناصره المنشقّة أو المعترضة عبر عنف زبائني مضاد كما يحصل في حالتي حركة “أمل” و “حزب الله” القادرَيْن حتى الآن على إخفاء التفكك الاجتماعي السياسي لقاعدتهما أكثر من غيرهما نتيجة القدرة على عزل هذه القاعدة المكاني الجغرافي بأساليب مختلفة.

6- منذ بدأ الحراك المدني عام 2015 و”التيار الوطني الحر” يعاني أزمة تكيّف مع هذا الحراك. وجد صعباً على نفسه ولا زال، أن يقبل بأنه جزء من شبكة القوى التي وقفت الثورة ضدها. كأنما 17 تشرين أنهت فتوّةً كان يتمتع بها خطاب وبنية “التيار الوطني الحر” باعتباره الحزب المسيحي الأول. لقد دفع في التباسات 11 عاماً من مشاركته القوية في الحكم ثمناً يعادل 30 عاماً من مشاركة القوى الثلاث السنية الشيعية الدرزية في الشارع الآخر من البلد. والواقع أن التيار انخرط مع القوى الأساسية الأخرى في مسائل مثيرة للريبة كبواخر الكهرباء والتوظيفات العشوائية في القطاع العام ومرسوم التجنيس وغيرها.

7- “حزب الله” هو بدوره دخل مع 17 تشرين الأول في أزمة تجاهل لمسؤوليته عن مسار الانهيار مع القوى الأخرى وتغطيته لكل القرارت الكبيرة في الشأن المالي. لعبة التمايز تصطدم بالنتائج الهزيلة بل غير الموجودة لحملة “مكافحة الفساد” ومع ذلك الإصرار على أن التمايز الشكلي مستمر دون أن يصحبه استعداد لدفع أي ثمن مُقْنِع من تحالفاته وبصورة خاصة داخل الطائفة الشيعية. وتبقى مسألة الثمن الفادح الذي يدفعه لبنان بسبب التمثيل الإقليمي الشديد للحزب مسألة أساسية ولا يمكن تجاهلها حتى في بلد نظامه السياسي مفكك و دولته منهوبة.

8- تتصرف “القوات اللبنانية” وكأنها وُلِدت بعد الحرب وليست جزءاً من إرثها الضخم . لستُ لأقلِّل من مجهوداتها للتميز عبر المشاركة غير المعلنة في ثورة 17 تشرين لكن هذا المزيج من ادعاء الطهرانية و التجاهل، كما عند “حزب الله”، يصطدم بوعي جيل جديد نخبوي رافض لكل الميليشيات وإرثها ولوقائع مادية على الأرض لا يمكن نكرانها ولا يمكن إخفاؤها في الوقت نفسه.

9- ثورة 17 تشرين الأول كشفت النقاط الأكثر ضعفاً في النظام السياسي ولكنها تواجه العناصر الأكثر قوة فيه أيضاً. دولة النظام القوي وصلت إلى الإفلاس الأخلاقي والمالي شبه الكامل ولكن حتى الآن ليس من مؤشرات على إمكان اختراق تغييري يتجاوز الفضح… حتى الانتخابات النيابية المبكرة لن تكون قادرة على التغيير سوى الجزئي والشكلي.

“النهار”