
(خاص)
التجدد الاخباري – مكتب (بيروت +اسطنبول)
تحليل اقتصادي
فى سقوط اقتصادى مدو للنظام التركي، هبطت الليرة التركية إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق مقابل (الدولار واليورو)، في تجاهل تام للانخفاض التاريخي ، الذي بلغه سعر الدولار عالميا، حيث وصل لأقل مستوى منذ 10 سنوات.
انخفضت العملة التركية إلى 7.2775 مقابل الدولار، وهو الأدنى في تاريخها، قبل أن تستقر عند 7.24، مقارنة بأدنى مستوى قياسى سابق ، بلغ 7.26 في أيار- مايو، حيث أدى الركود العالمي الناجم عن جائحة كورونا إلى إبراز نقاط الضعف في الاقتصاد التركي.
ويعزى هذا الانخفاض جزئيا إلى ارتفاع التضخم ، والعجز الواسع في الحساب الجاري، ودفع الحكومة للحصول على ائتمان رخيص لتشغيل الاقتصاد الذي كان هشا بالفعل قبل وباء كورونا.
ويبدو أن مساعى تركيا في طلب تمويل عاجل من بعض البلدان، قبل نحو شهر، لم تنجح في كبح جماح الانهيار، الذي بدأ يلحق بعملتها.
وكانت الحكومة التركية قد طلبت مساعدة من حلفائها الأجانب في مسعى عاجل لتدبير التمويل، لمواجهة أزمة عملة ثانية لها خلال أقل من عامين.
وأجرى مسؤولو الخزانة والبنك المركزي ، محادثات ثنائية في الأيام الأخيرة مع نظرائهم من (اليابان وبريطانيا)، بشأن إنشاء خطوط مبادلة عملة، ومع (قطر والصين) بشأن زيادة حجم تسهيلات قائمة.
ويُعتقد أن السياسات غير التقليدية، بما فى ذلك إصرار الرئيس التركي رجب إردوغان على خفض أسعار الفائدة، إلى جانب القلق بشأن مستوى احتياطيات تركيا، دفعت رأس المال الأجنبي إلى الهروب من تركيا، خلال الفترة الأخيرة.

وأشار محللون إلى تصاعد التوتر مع الاتحاد الأوروبي باعتباره خطرا قد يؤثر على اقتصاد البلاد، في حين تواجه تركيا تهديدات بفرض عقوبات (مؤجلة) من الاتحاد الأوروبي على خططها للتنقيب عن الموارد الطبيعية في شرق البحر المتوسط.
وقال جيسون توفي من «كابيتال إيكونوميكس» في مذكرة للعملاء: «إذا استمرت التوترات مع الاتحاد الأوروبي في التصاعد، فإن السقوط الأكثر حدة قادم».
وعانت البلاد تراجعا في قيمة العملة في آب- أغسطس 2018، عندما تراجع سعر صرف الليرة إلى 7.24 مقابل دولار، خلال التوترات السياسية مع الولايات المتحدة.
وكان صندوق النقد الدولي قد كشف في تقرير له ، صدر نهاية الشهر الماضي، أن تركيا جاءت ضمن الدول التي تراجعت إلى ما دون حد كفاية احتياطي النقد الأجنبي، مؤكدًا أنها تتجه إلى الركود الثاني في أقل من عامين، وذلك بعد أن توقع انكماش اقتصادها بنسبة 5 %.
وقال الصندوق، في تقريره المحدث عن وضع البنوك المركزية حول العالم ، ومستوى احتياطيات النقد الأجنبي، بعنوان «الشروط التمويلية خففت لكن خطر الإفلاس كبير»، إن بعض الدول تتعرض لانخفاض في مستويات احتياطيات النقد الأجنبي، وتحتاج إلى إعادة هيكلة للديون.
وجاءت تركيا في القائمة بجانب كل من (بولندا وماليزيا)، وعدد من الاقتصادات الهشة، من حيث متطلبات التمويل الخارجي المكون في إجمالى الديون ، التي اقترب أجل سدادها، مقارنة بإجمالي الدخل القومي.
وتحتاج تركيا لتمويل يبلغ 164.6 مليار دولار لسداد ديون قصيرة الأجل ، تستحق خلال 12 شهرًا. وبلغ العجز في الحساب الجارى لتركيا خلال الربع الأول من العام الحالي 12.9 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل إلى 30 مليار دولار بنهاية العام، وهو ما يعني وفق تقديرات الخبراء أن احتياج تركيا من التمويل الخارجي ، سيصل إلى 195 مليار دولار.

صعود الليرة التركية إلى الهاوية!
وقبل أيام قليلة فقط ، كشف تقرير المعهد المالس الدولس، أن أنقرة يمكنها فقط سداد نصف ديونها الخارجية قصيرة الأجل، البالغة أكثر من 120 مليار دولار، كما تصدرت تركيا ، قائمة الدول الأكثر احتياجًا للتمويل الأجنبس لسداد ديونها الخارجية.
في الوقت نفسه يعانى الاقتصاد من تراجع واردات السلع الوسيطة بسبب الأزمة الاقتصادية والصادرات المتزايدة منذ 18 شهرًا، إضافة لتراجع الاحتياطي النقدي التركي.
ديون ضخمة
ويكذب تقرير «المالي الدولي» ، ما قاله رئيس البنك المركزي التركي «مراد أويصال» في تشرين أول- أكتوبر الماضي، بأن الاحتياطي النقدي الأجنبي ، بلغ مستوى ، سيمكّن تركيا من سداد الديون الخارجية قصيرة الأجل، في حين أن الديون التركية الخارجية ، المصنفة ديونًا قصيرة الأجل وتستحق السداد بعد أشهر قليلة ، تبلغ 121.3 مليار دولار.
وتشير وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، إلى أن الدين السيادي لتركيا ، وصل إلى درجة خطرة، كما تم إدراجه ضمن الدرجة غير الاستثمارية، إذ بلغ حجم الدين الخارجي لتركيا نحو 440 مليار دولار، بزيادة حوالي 310 مليارات دولار خلال حكم “حزب العدالة والتنمية”، حيث كان قبل عام 2002 يبلغ 129 مليار دولار.
ويشبه خبراء اقتصاديون ، حالة التخبط التي تعانيها الليرة التركية، سيناريو الفيلم المصري الشهير «الصعود إلى الهاوية»، والذي يسرد قصة الجاسوسة المصرية الشهيرة (هبة سليم)، التي ظنت أن بإمكانها الوصول لأحلامها سريعًا عبر العمالة والخيانة، لتكتشف في النهاية ، أنها كانت تعيش في حالة من الوهم.

تحديات اقتصادية
ويواجه الاقتصاد التركي ، العديد من التحديات خلال الفترة الأخيرة، أهمها تراجع الصادرات التركية خلال العام الماضي (2019) نحو 2 مليار دولار من نحو 168 مليار دولار في (2018) إلى 166 مليار دولار، نتيجة انخفاضها في السوق الأوروبية ، ومنطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
يأتي ذلك بالتزامن مع محاولات لعدد من الدول العربية وعلى رأسها : “المغرب ومصر وتونس” لمراجعة اتفاقيات التجارة الحرة مع أنقرة، بهدف تعديل الميزان التجاري الذي يميل لصالح أنقرة.
ورغم حجم الصادرات الكبير لتركيا، فإن “حجم الواردات”، يفوق “قيمة الصادرات” بكثير، حيث تبلغ الواردات التركية نحو 220 مليار دولار سنويًا، وهو ما دأبت على تعويضه من خلال عائدات السياحة والاستثمار الأجنبى، واللذان يواجهان ضغوطًا ، نتيجة تخبط السياسة التركية.
ووسط شكوك المستثمرين في قدرة الليرة التركية على الصمود خلال الفترة القادمة، إذ انخفض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي التركي بنحو 5 مليارات دولار (دفعة واحدة) خلال تشرين الثاني- نوفمبر الماضي، ليصل لنحو 75 مليار دولار.
من جانبه صدق البرلمان التركي في تموز- يوليو الماضي على قانون اقتصادي ، يتضمن تعديلات على توزيع الاحتياطيات القانونية، للبنك المركزي ، وعمليات إعادة هيكلة الديون.
ويجنب هذا القانون ، عشرة بالمئة ، بدلًا من 20 بالمئة من أرباح البنك المركزي ، كاحتياطيات قانونية، مع تحويل القدر المتراكم من السنوات السابقة إلى الخزانة.
يستهدف التعديل ، دعم ميزانية ، آخذة بالتدهور، إذ بلغ العجز 78.58 مليار ليرة (13.82 مليار دولار) في الأشهر الستة الأولى من العام (2020) ، بينما توقعت الحكومة ، عجزًا قدره 80.6 مليار ليرة بنهاية عام 2019.
ورغم أنه من الطبيعي ، أن تبقى الاحتياطيات القانونية ، منفصلة عن احتياطي النقد الأجنبي للبنك المركزي، فإن القانون ، يلزم البنك بتجنيبها من الأرباح للاستخدام في الظروف الاستثنائية، ما يشير إلى أن البلاد في حال دخولها في ظروف استثنائية ، فإنها لن تجد أموالًا للإنقاذ.

تاريخ الانهيارات
بالنظر إلى تاريخ الليرة التركية، يتضح أنها محملة بماضٍ مليء بالانهيارات، إذ بدأت طباعة أقدم عملة تركية، في العهد الجمهوري سنة 1927، ولكنها طُبعت بالحروف العثمانية، ثم طبعت من جديد بالحروف اللاتينية الحديثة سنة 1937، وكانت حينها من فئة 5 ليرات، وتحمل صورة الزعيم التركي “كمال أتاتورك”.
خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي ، شهدت الليرة ، أول انهيار لها، نتيجة ارتفاع معدل التضخم وزيادة معدل الديون الخارجية للبلاد، وأطلق على السبعينيات (سنوات التضخم الاقتصادى الكبير وسنوات القحط)، إذ عانت تركيا من الحظر ، الذي فُرض على النفط سنة 1974، بعد التدخل التركي في جزيرة “قبرص”، والذي أدى إلى فرض الحصار الاقتصادي ضد تركيا من قبل الدول الغربية، ما نتج عنه هبوط قيمة الليرة التركية إلى مستويات منخفضة للغاية.
وعلى أثر هذه الأزمة ، تم تداول ، جيل جديد من الليرة ، سمي بـ”الجيل السابع”، بداية من عام 1979، حيث اختفت العملات من فئة الألف ليرة، وبعد سنة 1980 ، أصبحت الألف ليرة ، تطبع كنقود قليلة القيمة، ومع استمرار الأزمة ، طبعت عملات من فئة 5 آلاف و10 آلاف ثم 20 ألفًا فـ 50 ألفًا و100 ألف ، مرورًا بـ 250 ألفًا ، ثم 500 ألف ليرة.

ذروة الأزمة
تعد فترة التسعينيات، أكثر الفترات ، التي شهدت فيها العملة التركية ، ذروة أزمتها، فمع تنحية الحكم العسكري للبلاد عام 1982، دخلت تركيا مرحلة سياسية واقتصادية جديدة، ركزت فيها تركيا على الصادرات ، وأزالت القيود على الواردات ، وفتحت الباب للاستثمار الأجنبى.
بدأت الحكومة بعد ذلك في تشجيع خصخصة القطاع العام ودعم القطاع الخاص، هذه السياسة التي أدت في النهاية إلى أن البلاد عانت فى 1994، 1999و 2001 من أزمات اقتصادية حادة ، ادت إلى انهيار الليرة إلى أدنى مستوياتها ، وزيادة نسبة التضخم بشكل كبير.
ودفعت الظروف الاقتصادية السيئة في النهاية لانهيار الحكومات عدة مرات، واستمر هذا الوضع حتى 2004، حيث نجحت حكومة حزب العدالة والتنمية في خفض نسبة التضخم إلى نحو 9.4 % من نسبة تضخم بلغت 150 % في عامي 1994-1995.
تعود اليوم تركيا لنفس المشكلة ، التي عانت منها طويلًا، بما يؤكد أن حكومات “حزب العدالة والتنمية” بقيادة (أردوغان)، تنتهج نفس أساليب الحكومات السابقة في معالجة الأزمة عبر سياسة المسكنات ، التي تعتمد على الاقتراض من الخارج، دون تغيرات هيكلية في بنية الاقتصاد تعالج المشكلة.