يواجه السوريون، بغالبيتهم، معاناة حقيقية لمجرد الحصول على لقمة عيشهم. وبالوقت ذاته تحتدم معارك سياسية ودبلوماسية دولية تتمحور حول لقمتهم هذه. لم يكفِ الانهيار المالي في لبنان كي يطيح بما بقى من عوامل تشغيل الاقتصاد ولا جائحة كورونا (كوفيدــ19) كي تعيق إمكانية العمل ولو مياومة لكسب ما يسد الرمق، وكي ينهار سعر صرف الليرة وتغرق أسعار جميع المواد الأساسية في موجة غلاءٍ فاحش، هذا إن تواجدت أساسا. في مثل هذه الأجواء المشحونة يُصبح التحدي الأساسي اليوم هو الحصول على المساعدات الإنسانية والسلل الغذائية عبر الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية الدولية أو الانخراط فى فوضى صراعات محلية للاستحواذ على مواردٍ شحيحة.
تمت كتابة السطور الأولى لهذه المأساة الإنسانية منذ بداية كيفية تعامل الدول النافذة مع انتفاضة السوريين والقمع الذى واجهته، كي تُدفَع إلى صراعٍ عسكرى بتمويلٍ كبير للاستحواذ ليس فقط على المدن والقرى بل أيضا وأساسا على الموارد والأنشطة ومخزونات القمح… أو تدميرها. ثم تم العزوف عن التدخل العسكرى المباشر الذي بدا مستحيلا واستبداله بعقوبات أحادية الجانب.
لقد تم إبراز بعد واحد من هذه العقوبات استهدف أفرادا تعدوا على حقوق الإنسان أو ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية أو لمسئوليتهم عنها. وتغاضت الدول التي فرضتها عن البعد الذي يمس الاقتصاد السوري ككل والواقع الذى خلقته رويدا رويدا. فعندما يُسأل المسئولون في الولايات المتحدة أو أوروبا عن الأوضاع الصعبة التي كانت سوريا قد وصلت إليها حتى قبل الانهيار الحالي، كانت الإجابة الصلفة تأتي أن الإجراءات الأحادية الجانب لا تمنع تصدير الغذاء والدواء إلى سوريا.
تتبدى صلافة هذه الإجابة بأن سوريا كانت تتمتع بأمن غذائي ودوائي مريح قبل الصراع. إلا أن إنتاج القمح وبقية الزراعات قد انهار نتيجة انهيار الزراعة المروية، ذات الإنتاجية الأكبر، بفعل غياب الوقود المستخدم في عملية الضخ والأسمدة والمبيدات وغير ذلك من العناصر المرافقة. هكذا بات الإنتاج المحلي لا يسد الحاجة حتى لو غاب التنافس العبثي الحالي حول المحصول الشحيح بين الدولة السورية والإدارة الذاتية في الشمال الشرقى للبلاد. محصولٌ بات يعتمد على المطر وعلى تقلبات الطقس.
كذلك فرضت العقوبات منعا لتصدير النفط من قبل الدولة السورية، لحرمانها من الحصول على موارد مالية، في حين كان ميزان الاستيراد والتصدير للمواد النفطية يتجه نحو العجز. هذا قبل تدمير المنشآت النفطية والغازية وخضوع ما بقي منها الشحيح لجبهة النصرة ثم لداعش ثم لقسد والقوات الأمريكية. ومنذ زمنٍ طويل باتت المعضلة فى سوريا هى استيراد المحروقات وليس تصديرها. ما منعته العقوبات مباشرة (الولايات المتحدة وبريطانيا) أو بشكلٍ غير مباشر لأنه ما من شركةٍ أو مصرفٍ سيجرؤ على تصدير أو تمويل تصدير محروقات إلى سوريا. بالتالي تم دفع السلطات السورية كي تكون أكثر تبعية لإيران لأنها الوحيدة التي تجرأت على كسر هذا الحظر. في الوقت ذاته الذى تتم فيه المطالبة بفك الارتباط مع إيران. دون السؤال الجوهرى المتمثل في كيفية أن يكون هناك ري وكهرباء ومعامل ونشاطات اقتصادية دون وقود؟
بالتوازي كانت الصناعات الدوائية السورية قد نجحت في تغطية ثمانين بالمئة من احتياجات البلد، في تركيبة معقدة كتعقيد الانخراط في الاقتصاد العالمى، بحيث تغطى عبر صادراتها احتياجاتها لاستيراد المواد الأولية وتأمين الأدوية بأسعار محلية رخيصة. ألغت الشركات الدولية رخصها، وتوقف توريد المواد الأولية من المصدر الأساس وتقلصت الصادرات. وبات السوريون في حاجة ماسة للأدوية المستوردة حتى للعلاجات البسيطة، فما بالنا بتلك المعقدة.
في الحقيقة، لم تكن الولايات المتحدة بحاجة لقانون قيصر للوصول إلى مثل هذه النتيجة… بل ما هو أبعد منها، حيث لديها مجموعة من القوانين والقرارات الإدارية الكافية لتشديد العقوبات. إلا أن الهدف الأساسى من ذلك القانون هو الضغط السياسى أكثر منه أى ضغط آخر.
وعندما يُسأل بعض السوريين ــ الأمريكيين الذين يظنون أنهم هم وراء القانون رغم تداعياته المعيشية الكارثية على السوريين في كل المناطق، تأتي الإجابة أن هذا هو الثمن (!) الذي لا بد من دفعه كي يرحل «النظام». بل والتأكيد أنه سيرحل من جرائه خلال أسابيع قليلة. لكن من يتحمل المسئولية «الأخلاقية» إن لم يرحل «النظام»، خاصة وأن المسئولين الأمريكيين يتحدثون فقط عن «تغيير سلوك النظام» وعن دفع سوريا كي تضحى مستنقعا طويل الأمد لروسيا؟
آخر المعارك السياسية الدبلوماسية كانت في مجلس الأمن حول «المعابر الإنسانية». والمقصود هو معابر وصول المساعدات الغذائية غير نقاط الحدود الدولية المفتوحة أصلا. تمحورت هذه المعركة حول فتح معبر اليعربية الذي يصل بين العراق، وليس كردستان العراق، ومناطق الإدارة الذاتية، ويخضع في الجانب العراقي للسيطرة الأمريكية المباشرة، وكذلك معبر الرمثا بين الأردن والجنوب السوري. كانت النتيجة في أن يبقى معبرا باب السلامة وباب الهوا وحدهما مع تركيا.
ورغم أن الوعود بتمويل المساعدات الإنسانية نحو سوريا أتت سخية هذه السنة فى مؤتمر بروكسل الأخير. فأنها لن تكون كافية لدفع التكاليف الباهظة لاستبدال الإنتاج المحلى بالاستيراد الخارجى. هكذا تبرز تحديات هذه المعركة مثلها مثل معركة استبدال العملة السورية بالتركية.هل سيبقى هناك علاقات قوية وتفاوض على اقتسام الموارد والمنتجات الشحيحة، بما فيها المساعدات الإنسانية، بين مناطق أطراف السيطرة الثلاثة على الأرض؟ أم ستذهب كل منطقة لتستقل بإنتاجها ومساعداتها منعزلة عن المناطق الأخرى؟
في مثل هذا السياق زار فيه وزير الدفاع الإيراني دمشق بينما زار قائد المنطقة العسكرية الأمريكية الوسطى الشمال الشرقى السوري بعد لبنان. لقد زاد كل منهما حدة التجاذب الذي يدفع السوريون ثمنه غاليا… أينما تواجدوا.
يبقى السؤال الأهم هو معرفة أين ستأخذ هذه الحروب السياسية والدبلوماسية الدولية على سوريا وفي سوريا المواطنين السوريين بعد أن يتم تجويعَهم؟! خاصة وأن أفق الحل السياسي يبدو واهيا. هل عليهم أن يقبلوا بأي شىء لمجرد الحصول على لقمة العيش؟
للتذكير إن التظاهرة العفوية الأولى التي عرفتها شوارع دمشق في 17 فبراير 2011 رفعت شعار: «الشعب السوري لا يُذَل!».
“الشروق”المصرية