aren

السياسي و المثقف … و الظل العالي \\ بقلم : د.فؤاد شربجي
الخميس - 25 - أغسطس - 2022

قبل أسابيع ، كانت ذكرى رحيل الشاعر الكبير “محمود درويش” . كثيرون احيوا الذكرى باستعادة أشعاره وريادته ، ولم يتطرق أحد الى مامثله الراحل درويش في اطار العلاقة بين السياسي والمثقف ، خاصة من جهة علاقته مع القيادة الفلسطينية وعضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، وتحديدا علاقته بـ(ياسر عرفات)، الذي كان درويش يصفه بـ(القائد).

درويش بين حبش على (يمين الصورة) وعرفات على (يسار الصورة)

فماذا عن تجرية درويش من حيث علاقته كمثقف مع السياسيين ، قادة الثورة الفلسطينية ، وياسر عرفات تحديدا ؟

في الدورة السادسة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني بعد الخروج من بيروت ، اصطحب عرفات معه “محمود درويش” الى قاعة الاجتماع ليلقي بعضا من أشعاره ، ومن يدقق في مجريات هذا الحدث ، يكتشف الكثير حول علاقة المثقف بالسياسي.

فأولا وقبل كل شيء ، القائد نفسه (ياسر عرفات) ، اصطحب المثقف الشاعر ، ليقول شعرا في الاجتماع – ثانيا بين المزح والجد ، قال دوريش من على المنبر قبل ان يقرأ أشعاره ، ان ابا عمار قدم له كل الضمانات الامنية تجاه شعراء آخرين – ثالثا منظمو الاجتماع ، احضروا النجم المصري “نور الشريف” ليقدم درويش كاثبات على عظمة الشعب الفلسطيني – رابعا النقل المباشر للاجتماع ، أوضح مدى فرحة وسعادة واغتباط القيادة الفلسطينية بكل تلاوينها من (جورج حبش الى احمد جبريل الى نايف حواتمة الى بسام أبو شريف الى ياسر عرفات) بحضور وشعر محمود درويش ، فقد كانوا مع كل مقطع يلقيه ، يصفقون بحرارة ، ويتفاعلون بحماس ، وقد بدا ياسر عرفات ، كطفل يتلقى هدية العيد بوجود درويش ، فصار الشاعر ، هو الاجتماع ، وهو القيادة ، وهو القضية ، لانه صار المعبر بشعره عما في نفوس الجميع.

د.فؤاد شربجي

ماألقاه درويش في الاجتماع ، كان قصيدة (مديح الظل العالي) ، والكل استمع لها ، وانسجم معها دون ان يعرفوا وقتها ، انها عن ياسر عرفات ، وتفاعلوا مع تفاصيلها ، وصورها ، خاصة وان درويش ضمنها معاني العمل الفلسطيني ولو بصيغ شعرية ، كما مرر فيها انتقادات كثيرة لممارسات عربية وفلسطينية ، وهاجم مواقف دولية وعربية ، وطبعا فلسطينية ، وفي عمقها مواقف للقيادة الفلسطينية ولـ(ياسر عرفات) تحديدا ، ولكن تجاه هذا الموقف النقدي من الشاعر ، كان السياسي (القيادة الفلسطينية وتحديدا ياسر عرفات) متحمسين لمايقول ، متفاعلين مع معنى ما يطرح مصفقين ، مهللين.

هي ثورة المثقف ، وهو يواجه السياسي بأفكار تنتقده ، وهي تسرد معانيه . وهي صورة السياسي المتقبل المتفاعل . وعبثا بحثنا عن شرطة المعاني التي ترافق السياسي عادة ، وتقبض على المثقف المنتقد !  

في التدقيق بتاريخ علاقة درويش بالسياسي ، تحضر استقالة الشاعر من عضوية اللجنة التنفيذية ، احتجاجا على اتفاق “اوسلو” ، وماتضمنته هذه الاستقالة من رجم لهذا الاتفاق ، ولمن اتفق (ياسر عرفات) ، ولكن عرفات تفهم موقف المثقف ، ولم يبعده ، او يعاقبه ، وابقى عليه في العمل الثقافي (مجلة الكرمل).

حيث استمر درويش ينتقد سياسات عرفات . فهل عرف عرفات ان درويش مهم للقضية الفلسطينية، كمثقف مبدع ، كأهمية الثورة ، و بما يفوق أهمية السياسي؟! وهل ادرك عرفات ان الحفاظ على المثقف المبدع فيه ضمان للتاريخ ، ومعنى للقضية، وصون لتاريخه هو ، ولمعناه؟!

لابد ان عرفات ، عرف وادرك بان قصيدة درويش (مديح الظل العالي) بمافيها من ابداع ، ستخلد عرفات أكثر من كل مافعله من مواقف ونضالات على أهميتها . انه ادراك بالفعل متقدم ، لأهمية المثقف المبدع في أي مجتمع ، ولأي قيادة تريد الفعل والفعالية الحضارية لقيادتها ، وسياستها

وكأمثلة : ألم يدرك عبد الناصر أن محمد حسنين (هيكل) كصحفي ومثقف ، يوازي بأهميته مجلس الثورة ؟ ثم ألم يجعل هيكل، عبد الناصر ، حيا ، طيلة أربعين سنة بعد وفاته ؟ وكذلك ديغول الذي كان يجلس (اندريه مالرو) الى يمينه في اجتماعات مجلس الوزراء ، مخالفا بذلك البروتوكول ، الذي لايجيز لوزير الثقافة هذا الكرسي ، وعندما سئل ديغول كيف تجلس مالرو الى يمينك؟ أجاب : بالحقيقة أنا من يجلس الى يساره.

وكما قال (نور الشريف) في تقديم محمود درويش باجتماع المجلس الوطني الفلسطيني (تعرف عظمة أي أمة بعظمة مبدعيها) ، فعلى نفس المنوال ، نقول : (تعرف عظمة أي قائد بمدى احترامه واعتماده على المثقف المبدع ) ، ونضيف : ليحقق أي سياسي هذه العظمة عليه ألا يسمح لشرطة الافكار وقامعي الابداع ، التحكم به ، لشيطنة الثقافة والمثقف ، لان المثقف يبقى الظل العالي ، والكاشف الممجد ، او الفاضح لاعمال ، ومواقف السياسي.