aren

الروح الحيادية العميقة في تاريخ لبنان الانحيازي \\ كتابة: جهاد الزين
الثلاثاء - 21 - يوليو - 2020

beirut-1

مع أن لبنان في تاريخه المئوي قد انحاز و تورّط في خيارات الذروة الصراعية في المنطقة مراتٍ عدة، سلمياً ثم “حربْ أهلويّاً” ضد حلف بغداد في الخمسينات وعسكريا ضد إسرائيل في الستينات والسبعينات الفلسطينية في القرن العشرين والآن في سنواتنا الإيرانية المستعارة والمستعِرة سياسيا… مع أن تاريخه انحيازيٌ فإن روحاً عميقة من الحياد تنبعث من تكوين هذا البلد المنقسم دائما…

ما الذي يجل إذن “الوطنية اللبنانية” فئويةً إلى هذا الحد بينما تكوينه يبعث دائما بموجات حيادية غير منظورة كتلك التي تنبعث من جسم معدني مدفون ؟

لا تأتي موجات الحياد من “نفاياتنا” الثقافية، أو من خرافاتنا الساذجة عن أصولنا بل من أعلى وأرقى ما فينا الذي لا يُقال وغالباً لا يُكتب، تأتي من تكوين حصيلتنا الحياتية، من نمط حياتنا الذي صنعه كيانٌ لم يتوقّع مؤسِّسوه الفرنسيون أنه سيصدر عنه كل هذه الإشعاعات الخطرة الوطنية والانشقاقية والإرهابية والإبداعية والتحديثية والدينية والتفتيتية والتوحيدية والتخلّفية والتقدمية…

ومع أن لبنانَنا هذا بلدٌ روحُهُ حياديّةٌ فهو لم يعثر بعد على حياده الضائع. كأن كل تاريخه، أعني المائة عام، يشبه مولودا يبحث عن أبيه الضائع وأحياناً عن أمه وأبيه معاً. لكن لبنان ليس لقيطاً بل هو الحائر الذي لم يعثر على نفسه..

المسألة العويصة التي تواجهها الروح الحيادية اللبنانية في العقد الثالث البادئ من القرن الحادي والعشرين هي التبدلات، أحيانا الفوضوية ولكن الجدية جدا في النظام الإقليمي العربي كما كان الأمر دائما في التأثير باتجاه واحد على هذا الصعيد: من المنطقة إلى لبنان وليس العكس.. وسأقول هنا كلاما ربما اعتبره البعض متسرّعا هو أن النفوذ الإيراني الحالي هو نفوذ عابر حتى لو أن كلفة الخروج منه ستكون مكْلفةً جدا. فليس لهذا النفوذ مشروع ثقافي حتى لو كان له مشروع أيديولوجي. الفارق كبير. المشروع المستقبلي للقوى الشبابية والنسائية الحية في المجتمع الإيراني هو مشروع غربي ثقافيا وينتظر كل مناسبة لإمكان صلح إيراني أميركي للتعبير عن نفسه حتى لو أجهضَتْه ردود الفعل المتطرفة في واشنطن أو طهران. المفارقة هنا أن الخيار الثقافي يتناقض مع الخيار الأيديولوجي في الحالة الإيرانية. ولكن تبدو الأمور وكأنها مسألة وقت لانتصار الثقافي على الإيديولوجي قسراً أو إرادياً في الحالة الإيرانية لأن هذا هو القانون العميق للعالم. لا شك أن الخيار الصيني الاستراتيجي الذي ينتهجه النظام في إيران قد يتمكن من تأخير هذا الاستحقاق خصوصا في ظل تخبطات رئاسة دونالد ترامب.

وليم بيرنز المفاوض الشهير مع إيران في الفترة التي سبقت إنضاج الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس دونالد ترامب، كتب هذا الأسبوع (14 تموز) مقالاً طويلاً في مجلة “ذي أتلانتيك” يدعو فيه إلى تجديد عميق في استراتيجية السياسة الأميركية الخارجية بعدما فقدت الولايات المتحدة قدرتها القيادية في العالم في ظل سياسة “أميركا أولا” التي انتهجها دونالد ترامب بشكل سطحي. يبدو لي هذا المقال أول إرهاصات التفكير الاستراتيجي الأميركي استعداداً لمرحلة ما بعد ترامب التي تلوح في الأفق. جوهر مقال بيرنز نائب وزير الخارجية الأسبق في عهد الرئيس أوباما و الرئيس الحالي لمؤسّسة كارنيغي، أنه لم يعد باستطاعة أميركا وقف الصعود الصيني لكن ما زال بإمكانها تجديد قيادتها للعالم على أساس فهم جديد للتعددية التشاركية.

الجزء المتمكِّن ماليّاً من العرب، وهو الجزء الخليجي، دق ناقوس الخطر الذاتي مبكرا ويبحث عن بدائل مستقبلية يراها في تغيير الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي. لبنان يقع مجددا بين شاقوف المصادرة الإيرانية الكاملة لموقفه وبين الانشداد الخليجي نحو السلم. لكن إسرائيل تمنع تبلور هذا النزوع بتصعيد سياستها الإلغائية للشعب الفلسطيني مما يرغم حلفاءها الأوروبيين وحتى الأميركيين على ممارسة ضغوط للحؤول دون تنفيذ قرارها ضم أجزاء حيوية من الضفة الغربية.

ليس جديدا الكلام عن سوء طالع المنطقة ولبنان منها، مع تأسيس إسرائيل. لقد أدخل وجودُ إسرائيل ديناميةً متوحشة على منطقتنا صارت أكبر من أن يتخطاها لبنان. دينامية لطّخت تاريخنا بالدم مراتٍ ومرات. تصوّروا لو حَلّ السلام العادل في المنطقة مع قيام دولة فلسطينية متصالحة مع نفسها والعالم! لكانت الروح الحيادية للبنان ستنبعث من رمادها ليس على خط الحدود الفلسطينية الإسرائيلية بل على كل خطوط الحدود بين الثقافات والديانات في العالم.

“نَعَفَتْ” إسرائيل المنطقة وأفسدت الإمكانية النبيلة لحياد لبنان، يتواطأ معها عادةً دُهاة المنطقة، فتتم كل فترة عملية تدويخ من جانبين لهذا البلد الصغير، شعباً وحكومةً ونخباً.

لم يُعطَ لبنان بعد فرصة إثبات فلسطينية حياده، وعروبة هذا الحياد كما أمميّته. لا زال واقعنا أسير مواليد الديناميكية المتوحشة. الأجيال المتلاحقة في لبنان “أُكِل رأسُها” في التباسات الحياد حتى جرى تشويه المعنى الحيادي، لذلك ثمة شجاعة نخبوية تتطلّب تغيير بعض قاموسنا المستخْدَم. مثال على ذلك يجعلني أطرح السؤال الساذج ظاهراً: كيف للعربي أن يكون عروبياً؟ السؤال الأصح: كيف للعربي أن لا يكون عروبياً؟

هذا يوصلنا إلى الموضوع الصعب. لا حياد في الهوية والحياد هو في النمط. نسير نحو مستقبل حيادي من حيث التراكم التاريخي للفكرة الحيادية ولو غير المتحققة. هذه الفكرة تتأخر ولكنها ستبصر النور بعد أن تصل منطقتنا إلى مرحلة ينتهي فيها ضخ التطرف مثلما ذات يوم سينتهي ضخ النفط..

يتقدم الوعي، لا الواقع، اللبناني نحو الحياد بينما نخسر نموذجنا الاقتصادي للحياد السويسري. هناك تاريخ طويل من لعبة القط والفأر بين المصارف السويسرية والمركز الفرنسي أو بين المصارف السويسرية و المركز الأميركي لكن المصارف السويسرية لم تلعب يوماً مع الشعب السويسري كما تفعل المصارف اللبنانية مع الشعب اللبناني الذي بدّدت ودائعَه وهرّبت أموالها (أمواله) إلى الخارج (5,6 إلى 6 مليار دولار بين تشرين 2019 وما تلاها من أشهر قليلة حسب أرقام آلان بيفاني في “الفايننشال تايمز” استنادا إلى معلومات سلطة التدقيق في مصرف لبنان).

سويسرا الشرق بلا قطاع مصرفي!! أي بلا اقتصاد على النموذج السويسري؟

هل هذه أحد مهازل التاريخ أم انتقام إلهي من الروح الحيادية العميقة للبنان أم انقلاب آخر غير منطقي في الظاهر يُسرّع من عجلة التغيير التاريخي ضد منظومة سياسية لن تغيِّر عادتها في تأجير لبنان شققاً سياسية وأمنية في مجمع من مجموعة طوائف؟ والآن تقع تحت جناح هذه المنظومة الخارجة على القانون، الخارجة حتى على قوانينها، تقع منظومة مصرفية طالما استظلتا ببعضهما البعض ذهاباً وإياباً.

الحياد لم يعد نبيذا سياسياً معتّقاً يخفيه مسيحيو لبنان في خوابي أقبية الخوف التاريخي، بل هو اليوم، وبعد مائة عام من الحياد المكتوم والانحياز التدميري، الملاكُ الأخرس الذي يتراقص أيضا في هواجس معظم نخب المسلمين اللبنانيين الراغبة بعيش آمن علّمتها التجارب أن كرامته المُحصَّلة من الاستقرار والتعليم في الوطن أو في المهجر هي العنوان الحقيقي لوطنية القرن الحادي والعشرين النازعة للتحرر من آلهة حراسة التخلف والفساد.

تجربة مائة عام من لبنان الدولة ليست، خصوصا في نصفها الثاني، مدعاةً للفخر لكننا لسنا أنفسنا بعد تلك المائة عام. وقد تغيّرنا كما تغيّر العالم. وإذا كنا نعيش على هذه البقعة الخطرة من الشرق الأوسط فنحن على إحدى أخطر فوهاتها. قد لا نكون الفوهة الأكثر بؤساً قياسا بحالة الشعب الفلسطيني، اضف إليه الشعب السوري والعراقي والليبي واليمني، ولكننا ندفع أثماناً مزدوجة من سوء الطالع الإقليمي والفشل الذاتي. نعثر الآن على روحنا الحيادية كما يعثر عالم الآثار على قطعة ذهبية من الحلي. عندما جاءنا المؤرخ أرنولد توينبي في نهاية الخمسينات وأبلغ النخبة اللبنانية التي حضرت لسماعه في قاعة “الندوة اللبنانية” أن بلادكم – لبنان – والبلاد السورية هما خطا غزوات خارجية على ما سيسمّيه مرافئ البحر من صور إلى طرابلس، ( وطبعاً طرطوس واللاذقية) ومرافئ الصحراء من دمشق إلى حمص فحلب، أصيبت تلك النخبة على الأرجح بالإكتئاب لمعرفتها بصعوبة الحياد الذي تشتهيه ضمناً. هذا افتراض بسيكولوجي سياسي آخذه على عاتقي وأنا الذي قرأت محاضرة توينبي بعد أربعين عاما من حصولها لأن رجلاً نبيهاً كغسان تويني أعاد طَبْعَها من ضمن مجموعة محاضرات “الندوة اللبنانية”، لكني أعتقد أن تاريخ لبنان، إذا كان لحسن الطالع أن يعود ليطبع لبنان بوشمه ذات يوم، يمكن قراءته على أنه الرحلة الشاقة نحو الحياد بين بيئات خارجية غير محايدة ولا يمكنها أن تكون محايدة إلا قسراً.

… أكاد أقول: ليس للبنان دولة عميقة، لديه روح حيادية عميقة.

وللتأمل والرصد صلة….

“النهار”اللبنانية