أسأل نفسي: لماذا أنا منخرط “عَصَبيّاً” في رصد الانتخابات الرئاسية الأميركية وأشعر بالارتياح الكبير لفوز جو بايدن ونائبته كمالا هاريس فيها؟
ماذا يعنيني في ذلك؟
ليس الشرق الأوسط، المنطقة المضطربة والخطرة التي أعيش فيها ومن ضمنها لبنان، هو الذي يشدّني إلى هذه الانتخابات، على أهمية ما يحدث في الشرق الأوسط من تأثير أميركي على مصائرنا الشخصية والعامة.
هذه لحظة، أشعر مع ملايين في العالم، أن أميركا تستعيد فيها اتزانها. لقد جاءت أميركا مع باراك أوباما ببعض أفضل ما فيها من تعبير مساواتي وكفاءاتي عميق، وجاءت أميركا مع دونالد ترامب ببعض أسوأ بل أبشع ما فيها وأكثره وحشية وعنصرية ولاأخلاقيةً.
ما هذا الرئيس السيئ الذي كانه دونالد ترامب! رأسمالي متوحش ربما كان أيضا يعكس بعض ما في أميركا من عبادة للمال ولربما أحد أسرار نجاحها ، لكنه لا يليق بأميركا أعظم دولة في العالم ، وربما الأعظم في التاريخ منذ الأمبراطورية الرومانية ، وربما العباسية الإسلامية، أميركا قلعة المعرفة والعلوم ، والتقدم الأهم منذ أثينا ، إذا صحّ ما نعرفه عن العالم القديم.
كان دونالد ترامب رئيسا رديئاً ومنحطّاً ومُهينا لأميركا. ليس بسبب بعض سياساته، والمفارقة أنها على فجاجتها كانت صادقة أحياناً، ولكن بسبب أمّيتِه التي كشف الكثير منها كتابا “بوب وودوورد”، ثم كتاب “جون بولتون”، وإحدى أطرف روايات بولتون أنه بعد جهد جهيد قام به الفريق الرئاسي لتعزيز العلاقات التجارية مع اليابان، فاجأ ترامب مستشاريه بإثارة موضوع الهجوم الياباني على الأسطول الأميركي عام 1941.
ويقول بولتون ان رئيس وزراء اليابان ، غادر الاجتماع بسرعة بعد ذلك ، وانهارت كل الجهود التي بُذلت لإنجاح الاجتماع. فهل يعقل أن يفتح رئيس أميركا غاضباً هذا الموضوع الذي أصبح من الماضي البعيد، وخارج أي تداول سياسي وهو الهجوم الياباني على الأسطول الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، والمعروف أن هذا الهجوم الذي دمّر الأسطول الأميركي ، هو الذي أدخل الولايات المتحدة الأميركية في الحرب.
حدِّث ولا حرج.
صحيح أن ترامب نال ملايين أصوات الأميركيين،لكنه يعكس من أميركا:
⁃ الوجه الخائف وغير الواثق من هذا البلد العظيم
⁃ الوجه المتخلّف
⁃ الوجه المتوحّش
أميركا الفرص وأميركا العلوم وأميركا المؤسسات وأميركا القانون، بالنتيجة أميركا الديموقراطية الواثقة من نفسها هي عكس ترامب المشكِّك وغير المؤمن أصلا بالقانون. لم يكن مقبولا أن تكون أميركا صانعة العولمة منعزلة وخائفة من العولمة ومختارة لسياسة انعزالية بل عدائية للعالم، حتى لأقرب حلفائها الأوروبيين.
أخيراً وليس آخراً، طبعاً، فمع سقوط ترامب ، نامت ديكتاتوريات العالم الثالث ليلتها الأولى حزينةً ، ولو أن التشكيك غير المسبوق ، الذي لا زال يمارسه ترامب في نزاهة الانتخابات ، هو خبر جيّد لدى كل مزوِّري الانتخابات من طُغم العالم التسلطية الصغيرة والكبيرة. فحين يأتي التشكيك من قلب الديموقراطية الأولى في العالم ، ستصبح التزييفات في استبداديات العديد من الدول الصغيرة في آسيا وإفريقيا ، أسهل. لذلك كان ترامب رئيساً من العالم الثالث ، حكم أميركا وها هي تضع حداً له.
لا أريد أن أعلّق أهمية استثنائية على فوز جو بايدن الذي قد يكون رئيسا عاديا ولكنه بالتأكيد رئيس طبيعي. وهو بالمناسبة الرئيس الأميركي الثاني الكاثوليكي المذهب بعد جون إف. كينيدي. وجود امرأة ككامالا هاريس نائبةً للرئيس يمثِّل نقلة نوعية في المكانة المفتوحة للنساء، والنساء من أصل إفرو هندي، ولكل النساء من أصول مهاجرة أو غير مهاجرة، في التقدم داخل المجتمع السياسي الأميركي، نقلة ربما تعادل ما عناه فوز باراك أوباما.
الآن لنسكب بعض الماء حول وفي الشرق الأوسط في العهد الجديد :
لقد كان أسوأ ما فعله ترامب هو قضاؤه تقريباً على فرص حل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبصورة خاصة قراره بنقل السفارة الأميركية إلى القدس. وسيكون هناك جهد كبير ينبغي بذله في واشنطن ورام الله وتل أبيب لإمكان إحياء حل الدولتين ولربما هذه لحظة الآن لنرى ما تستطيعه بعد المسماة “قوى السلام” داخل إسرائيل من دعم لمشروع الحل هذا خصوصا إذا واجه بنيامين نتنياهو هزيمة انتخابية.
لكن المفارقة المثيرة أنه، على قاعدة فوائد بعض المصائب بالنسبة للبعض، وضع ترامب العالمَ العربيَ أمام حقائق لم يعد ممكنا تجاهلها. بل صنع مع شركائه حقائق لم يعد ممكناً تجاهلها. وأنا أظن أن ضغطه الشديد على إيران أدى إلى اضطرار إيران لتشجيع لبنان على واقعية سياسية تخدم مصالحه في لحظة انهيار اقتصادي عبر قرار التفاوض مع إسرائيل.
ما حصل بين بعض الدول العربية الأساسية وإسرائيل من تطبيع للعلاقات سيكون حتما موضع ترحيب ودعم من الإدارة الأميركية الجديدة. هذه وقائع يتمنى أي رئيس أميركي أن يرعاها وسيشجعها بايدن رئيسا. حتى الإيرانيون الذين أهدوا قرار التفاوض اللبناني مع إسرائيل حول الحدود البحرية إلى ترامب، كانت تلك طريقتَهم الداهية في الانضمام إلى الوقائع الجديدة في الخليج والسودان، ولا تغرّننا الشعبوية الداخلية في السياسة اللبنانية.
يبقى السؤال الاستراتيجي الذي من المبكر الإجابة عنه ، وهو مصير الاتفاق النووي الأميركي الإيراني ( JCPOA) لكن لا شك أن السعي لمسار محاولة تفاوض جديد عليه أو على بعض تفاهماته المعلنة ، وربما غير المعلنة سيكون هو التوقع الأقرب لاسيما أن الأوروبيين وصلوا إلى هذه النقطة.
سنرى كيف ستظهر الاستراتيجية الإيرانية الجديدة التي تشكل العقوبات، أي تخفيف العقوبات، محورها الدائم. يبقى أن نذكِّر في هذا السياق برأي سبق لجو بايدن أن أبداه في وقت ما خلال وجوده كسيناتور في مجلس الشيوخ الذي شغل فيه لسنوات موقع رئيس لجنةالعلاقات الخارجية وهو قوله أن “باكستان هي أخطر دولة في العالم” فهل قصد في ذلك يومها وجود قنبلة نووية فيها يمكن أن تقع تحت سيطرة فصيل أصولي إرهابي؟ كذلك رأيه (بايدن)الشهير الذي ذكّرني به أمس مشكوراً قارئٌ عراقي وهو الدعوة لتقسيم العراق إلى “ثلاث ولايات سنية وشيعية وكردية”. لا تعليق.
“النهار”اللبنانية