
متظاهرون يقفلون محال الصيرفة في صيدا – (النهار)
من يدخل إلى أي مصرف لبناني يوميًا، فرعٍ صغيرٍ أو كبير، سيجد حالة لا سابقة لها في تعاطي المجتمع اللبناني، وفي تاريخ تعاطي المصارف مع زبائنها. وأنا أستعمل هنا كلمة مجتمع عن عَمْد، لأنّ التاريخ العريق للمصارف اللبنانية للقطاع المصرفي، وفي بيروت تحديدًا، منذ العهد العثماني، يجعل المشهد الراهن لا سابقة له. خرج البنك العربي من أكبر نكبة في التاريخ العربي الحديث، هي نكبة فلسطين، بثقة من المودعين وأصحاب الودائع الكبيرة، ما زال يحصد ثمارها حتّى اليوم.
أشكّ أن يتمكّن القطاع المصرفي اللبناني بسبب سوء إداري للأزمة، من استعادة الثقة العميقة به خلال عقود. فهذه أزمات تنزرع في الذاكرة الجماعيّة للمجتمع، بما لا يتيح استعادة الثقة الضائعة بسهولة.
كان المودع اللبناني صغيرًا أم كبيرًا، يدخل إلى البنك كما يدخل إلى واحد من معاقل ثروته الوطنيّة، وكان في المقابل أصغر مدير فرع يحظى باحترام وثقة لا ينالها حتّى موظّف كبير في الدولة : كان التعامل محترمًا، وكانت الإدارات محترمة. ليس من مدير مختبئ صَغُر ام كَبُر، لا يجرؤ على مواجهة الناس. كان مدير الفرع يمرّ بخيلاء بين الزبائن ، كلا الطرفين محترم، المودع الكبير أو الصغير على ثقة لا تهتزّ بثبات شعوره الحرّ، بكونه المتصرّف المطلق بنقوده، صَغرت أم كَبُرت.
تكاد البنوك اليوم تكون عبارة عن مجموعة شحّادين، يتجمّعون في ردهاتها ولو بأثواب أنيقة، ويكاد الموظّفون والإداريّون من ذلك الصنف الذي كانت تحفل به مصارف الدول الاشتراكيّة حيث الاصفرار على وجه الزبون، لا يعادله إلّا الاكفهرار على وجه الموظّف.
من يعرف تاريخ المركانتيليّة اللبنانيّة منذ العشرينيات من القرن الماضي، وكيف انبنى وبنت رصيدها، ليس على عمليّات تجاريّة فقط بل على ثقافة حديثة، وخصوصًا فرنكوفونيّة كانت في أساس النخبة الرائدة التي أسهمت في صنع صورة لبنان، يستطيع أن يقدّر الفداحة التي نعيشها. لا شكّ أنّ عظام ميشيل شيحا المثقّف والمصرفي البارز ترتعد الآن، إذا كانت ترده تقارير عمّا يحدث يوميًّا في ردهات البنوك اللبنانيّة.
هذه الأزمة هي ليست أقلّ من نهاية صورة عن لبنان، ربّما احتجنا إلى عقود لترميمها. هذا الذي يُذلّ في قاعات المصارف وبتغطية شرعيّة من حاكم مصرف لبنان، هو لبنان نفسه. صحيح أنّنا لم نشهد في تاريخ المصارف اللبنانيّة، بسبب مركانتيليتها، ظاهرة طلعت باشا حرب المشجّع، والمحفّز، والمموّل، لمعظم الإنجازات الصناعيّة والتجارية الكبرى في مصر العشرينيّات والثلاثينيّات من القرن الماضي، لكنّ المصارف اللبنانية حفلت بتاريخٍ من الصمود في دورات الحرب والسلم، التي عصفت بلبنان، وبقيت مرجعيّة أساسيّة للبنانيّين وغيرهم.
أيًا تكن الاعتبارات، لا يجوز استمرار هذا الوضع “التحتاني” في ردهات البنوك اللبنانية. أموال الناس ليست ملك المصارف، وباستطاعة المدّعي العام أن يتحرّك، ليسائل هل ما يحدث هو تخطٍّ لعناصر حقوق الملكيّة، كما يقال في لغة القانون؟
“النهار”اللبنانية