لن يُكتب تاريخُ مجزرة صبرا وشاتيلا من دون شهادة روبرت فيسك الاستقصائية التي تضمنها كتابه “ويلات وطن”. في هذا الكتاب الذي شكا لي روبرت فيسك عام 1998أن نسخته العربية جاءت ناقصة في بعض صفحاتها لوقائع تتعلق بدور إيلي حبيقة ومجموعته فيها. وطلب مني يومها أن أقوم بمقارنة بين النسختين الأنكليزية الأصلية والعربية المترجمة فتعاونٌْا على ذلك وما كان لي أن أرصد بدقة التغيير الحاصل أي الأسطر المحذوفة في النسخة العربية لولا مساعدة روبرت وتوجيهه. كان ذلك في أيام أعلى نفوذ إيلي حبيقة الذي فرض هذا الحذف على الأرجح على دار النشر المعنية بحكم قوة المخابرات السورية آنذاك.

كان هذا درسا مهنيا من هذا الصحافي الذي اشتهر بمواقفه الشجاعة وفقا لقناعاته التي لا يساوم عليها كما حصل بعد مجزرة قانا عام 1996 عندما بقي يبحث أشهرا في الولايات المتحدة الأميركية عن الشركة المصنِعة للصاروخ الإسرائيلي الذي سقط على مركز إقامة اللبنانيين المدنيين الذين لجأوا إلى موقع تابع للأمم المتحدة ظنا منهم أنه المكان الأكثر أمنا خلال الحرب الدائرة يومها. ما كشفه روبرت فيسك في “الاندبندنت” كان له دويً سياسي ومعنوي هائل في العالم وخصوصا الغربي لجهة تعميم إدانة إسرائيل كمسببة عمدا للمجزرة بحق المدنيين.
لكن كل هذا التاريخ المهني الناجح، كمدرسة في البحث الصحافي الاستقصائي، لم يشفع له عند بعض العقول المتوترة والضيقة في أوساط بعص يساريي المعارضة السورية المتحولين إلى الليبرالية عندما رفض روبرت اتهامات غربية عن استخدام النظام السوري لأسلحة كيميائية. ولم يتراجع روبرت بل لم يأبه، وقال لي مرة أنه لا دلائل لديه في الأمكنة التي زارها بعد القصف على أن النظام هو الفاعل وأنه يعجب كيف يصدق العالم مجددا من كذب علنا حول وجود أسلحة كيميائية لدى صدام حسين وثبت بالمطلق افتعال هذه التهمة.
أنا أيضا “لقنني” روبرت فيسك درسا حقيقيا عندما قامت “قضايا النهار” التي كنت أشرف عليها بترجمة أحد مقالاته ونشرنا النص حاذفين لاسم شخص حاكم عربي كبير تربطه ب”النهار” علاقة وثيقة وشخصية. أبقينا في الفقرة التي ينتقد فيها روبرت القمع الداخلي في تلك الدولة ولكن حذفنا اسم الحاكم ونشرنا النص مترجما طبعا. في اليوم التالي مساء، وكنا نعد للعدد الجديد، دخل على مكتبي الزميل علي بردى وسلمني تصويبا من روبرت يعترض فيه على حذف اسم الحاكم ويطلب توضيح ذلك في أول عدد مع إعادة نشر الفقرة بصيغتها الأصلية الصريحة. وهذا ما حصل إذ نفذتُ ما أراد ولم يعترض غسان تويني الذي تربطه بذلك الحاكم الراحل علاقة شخصية متينة وأذكر أن غسان تويني اصطحبني معه مرة وقدمني إلى تلك الشخصية العربية الكبيرة عندما كانت تزور لبنان.
لم يتصل بي روبرت يومها وكانت تلك إشارة أو على استيائه أو على عدم رغبته بإحراجي مع الحفاظ على موقفه الصارم.
استمرت صداقتنا طويلا وكانت آخر مرة ألتقي به شخصيا عندما دعاني مع زوجتي رغدا إلى عيد ميلاده السبعين في أحد مطاعم الجميزة وكانت معه زوجته (ذات الأصل الأفغاني)، وهي الثانية بعد الصحفية والمراسلة لارا مالرو. جمع روبرت يومها حشدا من أصدقائه اللبنانيين وغير اللبنانيين المقيمين في بيروت التقيتٌ بينهم طريف الخالدي وزوجته ووليد جنبلاط وزوجته ومروان اسكندر وزوجته وعديدين غيرهم لم أعد أتذكرهم.
رغم سفراته السريعة والكثيرة وأحيانا الطويلة كان مقيما في بيروت. المدينة التي أحبها واعتبرها مهنيا مركز ليس فقط الشرق الأوسط بل العالم.
كان من ذلك النوع من الصحافيين المحترمين جدا في الأوساط الثقافية وقد شاهدتُ شخصيا كيف امتلأت قاعة محاضرات جامعة كنتاكي في الولايات المتحدة الأميركية بالطلاب والحضور من خارج الجامعة وكنا التقينا هناك بدعوة من الجامعة إلى مؤتمر لإعلاميين وسياسيين فيها. جاء الجميع، وبعضهم لم يجد كرسيا للجلوس كي يستمعوا إلى روبرت في الموعد المقرر لمحاضرته.
لم يتقن اللغة العربية رغم إلمامه بها،لكنه وضع نظاما دقيقا يتيح له رصد ما يُنشر في بيروت و ما يعتبره أساسيا في العالم العربي.
كانت “لهفته” إلى الوقائع هي التي تلفتني، وكان يفاجئك بالمداخل المعلوماتية التي ينتهجها والتي لا تخطر على بال أحيانا.طبعا كأي مراسل كان يقع أحيانا في الاستعجال الذي يفرضه تلاحقُ الأحداث ولكنه كان مهموما بالنوعية والكشف وحين يحلل يكون قد أسهب في رواية الوقائع بأدق تفاصيلها.
كان يفاجئني دائما بما كنتٌ أسميه ” الوقائع االفيسكية” من زاوية إقناعك بأهمية معلومات لم تكن تظن أنها مهمة أو أنها يجب أن تكون مهمة.
سأحاول مستقبلا أن أراجع بعض كتبه خصوصا أن بعضها أقنعني بما كنت أرفضه سابقا وهو أن ينشر الصحافي أو المعلق مقالاته اليومية أو الدورية السابقة في كتاب مستقل لأنني كنت أظن أن إعادة النشر غير مفيدة. الآن غيرتُ رأيي لكن يتوقف على صيغة النشر والاختيار جدوى المحاولة.
“النهار”اللبنانية