يصف كتاب تاريخ الهجرة اللبنانية الذي أشرف عليه قبل أكثر من عقدين في جامعة اوكسفورد المؤرخ الكبير الراحل ألبرت حوراني وساعده فيه الصديق نديم شحادة المهاجرين اللبنانيين والسوريين في شوارع مرسيليا في أواخر القرن التاسع عشر حسب شهادة قنصل الدولة العثمانية في المدينة بأنهم يملؤون طرقات مرسيليا متسوّلين وجائعين في حالة رثّة تثير الشفقة كما جاء في الوثيقة التي تضمًّنها أرشيف الدولة العثمانيّة في رسالة بعثها هذا القنصل إلى مراجعه في إسطنبول.
لا يحتاج المراقب إلى عناءشديد لكي يتوقع حاليّا هجرة كبيرة من لبنان. لكن طبعا لن نرى المهاجرين اللبنانيين الجددفي ايّ شارع من شوارع المدن الغربّية الرئيسيّة بهذا الشكل، مع أنّ هذا النوع من الوثائق يلغي أسطورة أن ضيق ذات اليد كان حالة لبنانيي متصرفية جبل لبنان في العهدالعثماني فقط. إنّها الأسطورة نفسها التي تمتدّ إلى الحرب العالميّة الأولى وتعتبر خطأً أو تتجاهل أنّ مجاعات عديدة شهدتها مناطق سوريّة أيضًا في تلك السنوات الأخيرة من حياة الدولة العثمانيّة وليس فقط جبل لبنان..
بعث لي صديق يعيش في أميركا تعليقا على مقالي قبل الأخير: “أضلاع المثلث المالي” أنه عليّ أن أقتنع مع كثير من اللبنانيين أنّ لبنان القديم مات، وهي فكرة متطرّفة يمكن إيرادها باعتدال إذا قلنا هذه المرّة أنّ موت النظام المصرفي الحرّ يعني نهايةَ لبنانَ ما قديمٍ حسب ما يرى الصديق المشار إليه.
لست متفائلًا إلّا داخل الجحيم، ونحن في الجحيم، جحيم انهيار سعر الليرة وأزمة الثقة بالمصارف وتفاقم الأزمة الاجتماعيّة بشكل عام من جرّاء ذلك…واتضاح عدم إمكانية تأثير الثورة الجارية على الطبقة السياسية التي تحكم لبنان والتي نهبت البلد علناً.صحيح أن الثورة ضربت المزيد من ادعاءات هذه الطبقة المحصّن كل من قادتها بـ”جيش” خاص به بات يدفع رواتبه من الخزينة العامة. غير أنهم أي العديد من عناصر هذه الطبقة لزموا بيوتهم ولم يجرؤوا على مغادرتها خلال فترة مدِّ الثورة القوي في الشارع. بل قيل لهم قرب بيوتهم بصوتٍ عالٍ “حرامي حرامي”. بمعزل عن نوع مسؤوليتهم المباشر أو غير المباشر، وبمعزل عن اختيارهم هم وحدهم لا غيرهم.
على أي حال ها هم اللبنانيون في موجة الهجرة الجديدة هم الذين يغادرون وليس الحرامية.
اللبناني العادي يهاجر والحرامي من المفترض أن يهرب لو كان هناك حد أدنى من تأثير للثورة على البنية السياسية لأن مكافحة الفساد كانت من الشعارات الأكثر نيلاً للإجماع في الشارع.
هناك حدود لكل انهيار. لفت نظري أن مسؤولاً كبيرا في قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية قال أمام لجنة استماع في الكونغرس قبل أيام قليلة أنه لا زال بإمكان لبنان الاستفادة من 11مليار دولار هي أموال “سيدر” إذا تجاوب السياسيون مع مطالب الحد الأدنى الإصلاحية.
سمّى الموظف الأميركي الرفيع المستوى الرقم 11مليار.
باستطاعة كل أنواع السياسيين الفاسدين أن يتهموا اللبناني المهاجر قهراً بعدم الوطنية. فديباجة التمسك بأرض الوطن هي ديباجة استحقّت مراقبتها الجنائية منذ زمن طويل.
كتبتُ سابقاً في العدد الخاص الذي أصدرته “النهار” مع الجامعة الأميركية وترأس تحرَيره رئيسُها، أنه يجب احترام حق الشباب في الهجرة. في بلد يُدار بهذه الفجاجة والتقصير، الهجرة الجماعية ليست فقط تعبيراً دراماتيكيّاً عن فشل دولة وسقوط جهاز حكم، بل هي الرد الحكيم على مجرمي السياسة، ولدينا صنف خاص منهم في لبنان هو الصنف الطائفي.
أختم هذه الملاحظات حول الموجة الجديدة من الهجرة، وهي أنه بالتوازي معها سيزداد دور الرعّاع في حياتنا العامة. رعاع وشذّاذ آفاق وأنذال ستدفعهم ما يسمّونه “وطنيتهم” للبقاء..فلتسقط كل لعنات الآلهة على مصائر من هذا النوع.
“النهار”اللبنانية