كيف يبدو المشهد في أوروبا عشية انتخابات البرلمان الأوروبي من 23 إلى 26 من هذا الشهر. هنالك حالة من القلق والخوف عند الكثيرين فى أوروبا وخارجها من أن ينعكس صعود التيارات الشعبوية، تيارات اليمين المتطرف والمتشدد الموجود في السلطة في المجر وتشيكيا وسلوفاكيا وإيطاليا والموجود بقوة على الخريطة السياسية في العديد من الدول الأوروبية مثل أستونيا وهولندا وفنلندا، من أن ينعكس في وصول قوة وازنة من «التحالف الأوروبي للشعوب والأمم» إلى البرلمان الأوروبى.
التحالف الذى يعادى بقوة فكرة وفلسفة ومسار «البيت الأوروبى» ودوره ويحمله مجمل المشكلات التي تعيشها المجتمعات الأوروبية حسب أطراف هذا التحالف. والجدير بالذكر أن هذا التحالف ولد فى مطلع الشهر الماضى في ميلانو في مؤتمر لأحزاب اليمين المتشدد في أوروبا. الأحزاب «التي تشترك في الأهداف والمثل والقيم ذاتها» كما قال صاحب الدعوة نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني.
فهل تعيش أوروبا «ربيع قوى اليمين المتشدد» أم أن هذا اليمين قد وصل إلى أقصى قوته وقد نشهد بداية تراجعه. ويدل أصحاب هذا الرأى الأخير على ذلك بانتصار الاشتراكيين في الانتخابات الإسبانية ليقولوا إن هنالك إعادة تموضع للبوصلة السياسية الأوروبية نحو الوسط وأن اتجاه الرياح الأوروبية قد تغيرت.
فيما يرى الكثيرون أن تقدم اليمين المتشدد ما زال مستمرا طالما أن المسببات الرئيسية التي تشكل قوة نمو ودفع له ما زالت قائمة إذ يستقى هذا التطرف قوته من خلال «ورقتى» الاقتصاد والثقافة: اللاجئ والغريب يسرق عملنا ويسبب أزماتنا الاقتصادية التي أصابت بشكل كبير الطبقات الشعبية: إن المسئول هو «الآخر» المختلف عنا في العرق أو في الدين أو في القومية.
يأتي العامل الثقافي الهوياتي ليعزز العنصر الاقتصادي. يحصل ذلك في وقت تعيش فيه أوروبا تحديات أساسية وهيكلية منها الأزمات الاقتصادية ولو بدرجات مختلفة عند القوى الرئيسية الأربع في منطقة اليورو في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا التي كان يمكن لتعاونها لو كانت فى حالة مختلفة أن يطلق عملية إنقاذ على المستوى الأوروبى. ثم هنالك الضعف الإقتصادي في جنوب أوروبا وهو أيضا عنصر يصب في مصلحة التفسيرات الأحادية والتبسيطية التي تحمل الآخر المختلف مسئولية هذه الأوضاع إلى جانب ــ بالطبع ــ الإرباكات والتداعيات التي تحملها عملية الطلاق البريطاني (بريكسيت) مع أوروبا والخلافات التجارية الأمريكية الأوروبية.
أضف إلى ذلك دون شك تصاعد مخاطر الإرهاب الإسلاموى القادم من ضواحى المتوسط الشرقية والجنوبية والموجود فى ضواحى المدن الأوروبية عبر التيارات الإسلاموية الراديكالية، حيث يسهل التعميم فى النظرة إلى الآخر المختلف وتجرى أبلسته تعزز تلك المخاوف والفوبيات والنظرة الاختزالية، أعمال الإرهاب أو خطاب الكراهية الذى يحمله أصحاب التيارات الإرهابية بحيث يجري إسقاط هذا الخطاب على كل من هو مختلف في الانتماء الديني.
يزيد من ذلك استمرار أوضاع التوتر والحروب واللااستقرار على الضفة الأخرى للمتوسط من سوريا إلى ليبيا ومعها مختلف السيناريوهات الممكنة في تداعياتها السلبية على أوروبا المأزومة أساسا. كلها عناصر تعزز ثقافة الخوف من الآخر واختزال مصدر المشكلات في ذلك الآخر وإقامة جدران الانعزال ليس فقط ضمن البيت الأوروبي بل ضمن البلد الأوروبي ذاته أمام «الآخر المختلف» والمسئول عن تردي الأوضاع.
تقف أوروبا أمام تحديات ثلاث أساسية كما يقول أكثر من مسئول وخبير في الشئون الأوروبية: أولها، التغيير المناخي وثانيها الشيخوخة السكانية والحاجة بالتالي إلى طاقة شبابية للعمل والإنتاج وثالثها الثورة الرقمية التي ستترك آثارا قوية على طبيعة العمل حيث ستحل الآلة مكان الإنسان في مجالات عديدة، وعلى سوق العمل أيضا. كلها تحديات تستدعي مزيدا من التعاون مع إعادة النظر بالأولويات والمقاربات القائمة والمستقرة في مسار الاتحاد الأوروبي.
رومانو برودى، رئيس المفوضية الأوروبية الأسبق، يحذر من مخاطر سيطرة منطق التطرف فى زمن الشك والإحباط والتشويش على «مصيرنا المشترك» بدل التفكير في حلول مبتكرة وجديدة للتعامل الجماعي الأوروبي مع هذه الأوضاع.
هوبير فيدرين، وزير الخارجية الفرنسية السابق، يدعو بغية التعامل مع الأزمة، للتفكير ليس بين شرعية الفكرة الأوروبية والاستمرار بها من جهة أو إسقاطها من جهة أخرى، بل يدعو نحو إعادة تعريف هذه الفكرة وكيفية وضعها موضع التنفيذ وتحديد أنماط هذا الأمر وكذلك علاقتها مع «الدول الوطنية».
إنها أفكار تحمل تحديات ليست بالسهلة بالطبع ولكن تبقى في سياق عملية البناء الأوروبي وتطويره وتعزيزه وهو ما يصب لمصلحة الكل، وضد منطق تفتيت هذا البناء وتفريغه وتجويفه. فهذا لا يعالج المخاوف والأزمات كما يدعي الشعبويون بل يزيدها حدة وسوءا. فالمطلوب في نهاية الأمر إعادة تصويب البوصلة الأوروبية وليس الاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة بإسم شعارات جذابة ولكنها خاوية عمليا.
الانتخابات القادمة ستكون مؤشرا رئيسيا في نتائجها عن الطريق الذي ستسلكه أوروبا، وهو ما يهم أوروبا أساسا ولكنها أيضا محط إهتمام لجيرانها القريبين والبعيدين.
“الشروق”المصرية